من المسلم به أنه لا يكاد يخلو أى عقد بالترخيص باستخدام أى مجال من مجالات الملكية الفكرية صناعية كانت أم أدبية وفنية سواء فى صورة علامات تجارية أو غيرها ، أو برامج حاسب أو وسائط فنية أو خلافها من النص على أسلوب لتسوية المنازعات التى عسى أن تنشأ عن مثل هذه العقود ، والتى يتصدرها بصفة أساسية نظام التحكيم .
وعلى ذلك فإن التحكيم يمثل آلية أساسية لحل منازعات الملكية الفكرية بين المتعاملين فى السوق سواء على المستوى المحلى أو علـى المستوى الدولى .
فعلـى على المستوى المحلى لا يكاد تخلو منظومة تشريعية حديثة من قانون للتحكيم يعنى بحل المنازعات بوجه عام والتجارية منها على نحو خاص ، ومن بينها منازعات الملكية الفكرية .
أما على الصعيد الدولى فإن المنازعات التى تنشأ بين الدول من جراء المعاملات التجارية التى تجرى واقعاتها بينها يجرى فضها فى إطار ثنائى من خلال اللجوء إلى التحكيم سواء فى مراكزه الأساسية أو من خلال التحكيم غير المؤسسى ، أما على صعيد نظام العلاقات التجارية متعددة الأطراف فإن نظام تسوية المنازعات فى المنظمة التى تجسد هذا النظام ( WTO) يعنى بحل ما قد ينشأ من منازعات بين الدول فى مجالات التجارة الدولية ومن بينها منازعات الملكية الفكرية .
أما المنازعات التى يمكن أن تنشأ بين الأفراد والشركات ( جهات القطاع غير الحكومى ) فإن مركز التحكيم والوساطة فى W I P O يعنى بنظر هذه المنازعات من أجلها تسويتها .
وبما أن العنصر الأساسي للعولمة يكمن في تدويل الصناعة القائمة على العلوم والمعرفة المكثفة. وفيما كانت التوظيفات الخارجية تتجه في الستينات إلى صناعات الاستخراج والزراعة فإنها سرعان ما نمت في السبعينات واتجهت إلى المصانع، وهي تنصب هذه الأيام، خصوصاً على حقول الأبحاث المكثفة في الالكترونيات والأبحاث الكيماوية والأدوية والسيارات. هذا التطور كان من شأنه أن يخلق طلباً هائلاً على حقوق الملكية الفكرية في العالم. وتجلت العولمة خصوصاً في حقوق الملكية الفكرية التي سجلت استثمارات دولية هائلة في هذه الحقول والحقوق، إذ دلت الاحصاءات ان الثمانينات سجلت زيادة هائلة في عقود استثمار هذه الحقوق بين شركات أميركية ويابانية وأوروبية.
من هنا فإن ورشة أخذ وعطاء وبيع وتأجير واستثمار وبورصة أسعار وعقود ومفاوضات وربح وخسارة، اكتسحت حقوق الملكية الفكرية على الصعيد الدولي، ليصبح قطاع الملكية الفكرية قطاعاً عريضاً مزدهر.وحيثما كانت هناك تجارة تكون هناك خلافات تجارية، فالتوظيف والتجارة يتحركان في مركبة القوانين والعقود والحقوق والواجبات والخلافات بين أصحاب الحقوق وطريقة حسم الخلافات. وكلما ازدهر التوظيف والتجارة في حقل من الحقول زادت، المنازعات.
وأصبح التحكيم الوسيلة الأساسية لفض منازعات التجارة الدولية في مرحلة العولمة لكن هناك حقولاً بقيت محظوراً عليه دخولها، تسمى مواضيع غير قابلة للتحكيم! فما هي وسائل حسم منازعات الملكية الفكرية في العالم وفي العالم العربي في عصر العولمة الحديث؟
يعيش العالم حالياً في ظل نظام عالمي جديد فرضته اتفاقية “الغات”، خصوصاً دورة الاوروغواي التي تستهدف حماية الجوانب المتصلة بالتجارة للسلع والخدمات والملكية الفكرية.
عقدت اتفاقية “الغات” في 30 تشرين الأول اكتوبر عام 1947 في إطار وضع آليات للتجارة العالمية لتحول دون نشوب حرب تجارية شاملة والعودة إلى ما كانت عليه الحال قبل الحرب العالمية الأولى، ولتشكل إلى جوار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير الأضلاع الثلاثة للنظام التجاري العالمي الجديد. وبعد ثمانية جولات تفاوضية ولدت منظمة التجارة العالمية في 15 نيسان ابريل 1994.
عهد إلى هذه المنظمة، اعتباراً من مطلع 1995، السهر على تنفيذ اتفاقيات دورة اوروغواي التي بلغ عددها 28، تتدرج تحت مجموعات ثلاث هي التجارة السلعية، وأمور التجارة في بعض القطاعات السلعية مثل السلع الزراعية والمنسوجات والملابس الجاهزة، والخدمات، فضلاً عن اتفاق يتعلق بمواضيع التجارة المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية TRIPs.
ووضعت اتفاقية “تريبس” بهدف تحرير التجارة العالمية على أساس تشجيع الحماية الفعالة والملائمة لحقوق الملكية الفكرية، وضمان ألا تصبح التدابير والاجراءات المتخذة لانفاذ حقوق الملكية الفكرية حواجز في حد ذاتها أمام التجارة المشروعة.
ولم يكن الطريق معبداً أمام تحقيق هذين الأمرين الأساسيين، إذ كان واجباً الموازنة بينهما بعناية. وبعد سبعة أعوام من التفاوض تم التوصل إلى نص هذه الاتفاقية الذي يتميز بميزة مهمة، وهي أنها لا تتعامل إلا مع الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية، مع الابقاء على الاتفاقيات الدولية القائمة، فضلاً عما تتضمنه من الالتزام الفوري بمبدأي المعاملة الوطنية ومعاملة الدولة الأولى بالرعاية.
ومع ذلك، لم يكن الأمر بهذه السهولة ليحسم بمجرد اتفاق، إذ تضمنت اتفاقية “تريبس” نصوصاً موضوعية أكثر مرونة، وأحياناً أكثر سعة، مما ورد في عدد من الاتفاقيات الدولية القائمة الحاكمة لحماية الملكية الفكرية، التي أحال إليها اتفاق “تريبس”، وهي: اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعة عام 1967، واتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية عام 1971، واتفاقية روما لحماية فناني الأداء ومنتجي التسجيلات الصوتية وهيئات الاذاعة عام 1961، واتفاقية واشنطن لحماية الملكية الفكرية للدوائر المتكاملة عام 1989.
واذا كانت الحاجة إلى مركز تحكيمي في “الويبو” يضاف إلى عشرات مراكز التحكيم في العالم…لحل خلافات قانونية تعاقدية ناجمة عن عقود، وما فيها من نقاط فنية يمكن لرجال القانون أن يستعينوا على قضاء حاجتهم منها بالخبراء. الا ان الجدل حول ما إذا كان يجب أن يكون التحكيم في أمور فنية على يد محكمين فنيين أم قانونيين طويل ولم يحسم، ولكن خلافات الملكية الفكرية القابلة للتحكيم هي خلافات استثمار هذه الحقوق، وهذه خلافات قانونية كثيراً وفنية قليلاً جداً… وأحياناً كثيرة قانونية محضة. فعقود الاستثمار الدولي درجت على وضع الشرط التحكيمي وربما كان من المصلحة ان يبدأ العالم العربي تجربة إحالة المنازعات على الوسائل البديلة القائمة على الوساطة والتوفيق التي حققت تقدماً كبيراً في الولايات المتحدة وغير قليل في اليابان.. هي وإن كانت ما تزال بعيدة جداً عن عالمنا العربي، فإنها قد تأتي في يوم من الأيام ولا سيما منازعات مثل منازعات الملكية الفكرية. هذا يقتضي أن تسلط الأضواء على هذه الوسائل وأن تكون في العالم العربي موضع الدرس والتفهم والتجربة.