بقلم/ نشوى الشافعي
من اللحظات التي تجبرك على التأمـل في الحياة هي اللحظة التي تظهر فيها على شاشة ماكينة الصرف في البنك جملة ” لا يتوفر لكم رصيد كافي”! في تلك اللحظة تشعر ان للماكينة قلب و مشاعر و لكن حسن الأدب يمنعها من قول ” اجيب لك منين و انت ساحب اللي عندي أول بأول، شوف انت عملت ايه طول الشهر”!!!
و من اللحظات المربكة و التي تستحضر فيها نفسك اللوامة و كل أقاربها هي لحظة تأخر نزول الراتب!!!
فتنظر غير مصدق للشاشة و تستجديها: يا بنت الحلال راجعي نفسك، اليوم واحد في الشهر، أكيد عندك غلط…! و تدخل الكارت مرة أخرى…
و قلبك يعزف موسيقى تصويرية… و ملامح وجهك متجمدة… و حبيبات العرق تتصبب باردة من حرارة الانتظار و برود رد فعل الماكينة و هي تكرر: ” لا يوجد لديكم رصيد”
رصيدك: صفر- زيرو- صفرين- زيرو يامحترم!
و تبدأ أغنية عبد الحليم حافظ تصف حالك و انت عائد الى المنزل محملا بمبلغ صفر- زيرو- صفرين- زيرو
“و سرت وحدي شريدا محطم الخطوات… تهزني أنفاسي… تخيفني لفتاتي.. كهارب ليس يدري من أين أو أين يمضي”
و لكنك تدرك انك يجب أن تتماسك… فماهي الا سويعات تختبر فيها ماكينة البنك صبرك و قدرتك على التحمل…
و تبدأ رحلة حساب الذات:
لماذا أصابتك نوبة الكرم و دعوت أصدقائك إلى المطعم الايطالي؟ المرة القادمة شاورما!
لحظة… و لا مرة قادمة و لا شاورما… البعد عن الناس غنيمة…!
ثم تدخل المنزل لتجد انك لم تطفأ النور في المطبخ منذ البارحة!!!
و تلمع عينيك… هذه نقطة أخرى يجب أن اقتصد فيها… لمبات موفرة و اقتصاد في استخدام الكهرباء… لازم نشد الحزام..
و يرن الموبايل فجأة لتكتشف أنك تركته منذ الصباح على ال”ثري جي” و لم تغيره إلى ال “واي فاي”… و تسجل مصدر توفير آخر…
ثم تقوم بتحضير القهوة و تضع قطعتين كوكيز و فجأة تتأمل فيهما و تضع قرارا آخر انه حان الوقت لانقاص الوزن و توفير ثمن الكوكيز و القهوة و السكر و الحليب!!!
و في خطوات فعالة لتمديد عمر الراتب لمواجهة الأزمات الطارئة في تأخر نزوله و على أمل تحقيق معجزة الادخار تبدأ في تأمل الدخل الداخل بلطف و المصروف الخارج بعنف و الادخار الساكن و المعترض و الممتنع بسكون!!!
و تتسائل: “أكون أو لا أكون؟”
فالعلاقة تبدو عكسية بين حجم الدخل و حجم “الشقا” طوال الشهر…
و تبدو طردية بين ازدياد المصروفات و أيام الشهر…
و فجأة تظهر صورة صاحبك الفهلوي الذي يعمل في وظيفتين و فاتح بيتين و متجوز اتنين و مخلف طفلين… و كل شي اتنين اتنين…
و لكنك تستعيذ من الشيطان و تقول اللهم لا حسد…
أنا في الشهر القادم بإذن واحد أحد… سأقوم بأداء أفضل و ترشيد الاستهلاك…
ثم تدرك أن الأسعار قد ارتفعت بطريقة جنونية مؤخرا و انه لابد من ايجاد مصدر آخر لزيادة الدخل…
و تمضي ساعات الليل و انت تضع خطة بارعة محكمة للشهر القادم و الذي ستبدأ فيه بشد الحزام…
و تستيقظ صباحا بنفسية قوية صلبة مستعدة لتطنيش الفواتير المتأخرة و تأجيل المخططات العاجلة و استحضار كل فنون و طاقة الجذب لإيجاد مصدر دخل آخر…
و تمشي بخطوات واثقة أو مرتبكة… “مش راح تفرق! المهم توصل!”
و تصل بقلب يخفق بشدة عند ماكينة الصرف…
و تلقي الصباح على حبيبة القلب و التي حتى الأمس كان علاقتك بها علاقة حب من طرف واحد!
و ترضى عنك محبوبتك…. و تبادلك الحب..
و يظهر الراتب… و تبتسم.. و تتنهد… و تزهو منتشيا…
و تسمع كارم محمود يغني لك “أمانة عليك يا راتب طوّل و لا تتأخر زي الأول
شهر جديد و قلبي سعيد…
أمانة أمانة.. أمانة أمانة…”
و تبدأ رحلة الفرتكة المكتوبة على الجبين في سويعات بغض النظر عن كل القرارات الليلية بالادخار…
و تنظر الى ماكينة الصرف متسائلا بشوق و قلق… ياترى متى موعدنا القادم؟