بقلم/ الناقد الأديب دكتور السيد ابراهيم
متابعة/ دكتور علاء ثابت مسلم
عبر حوار طويل ممتد مع سفير العلم والأدب المفكر الموسوعي العالمي الكبير الدكتور محمد حسن كامل، رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب، هالني أن الرجل مازال كما هو لم يغير جلده، على الرغم من كونه عاش معظم عمره في مدينة النور باريس؛ فلا يتقعر بإدراج لفظ أو مصطلح أجنبي أثناء حديثه وهو الذي يجيد التحدث بعدة لغات ويرطن بها بطلاقة، بل هو لا يلجأ إلى الغرب ليقبس شعلة التنوير من شعلته، كما فعل بعضهم، فشعلة التنوير عند الرجل تبدأ منذ اللحظة التي نزل فيها رسول السماء أمين الوحي جبريل عليه السلام على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وكان مفتتح التنزيل “اقرأ”.
التنوير عند “كامل” لا ينبني على مجرد آراء وأقوال تتمترس بالتنظير، ولكنها عنده مشروع عملي حضاري له بداية وله غاية، أنه “مشروع مشعل التنوير العربي” الذي يخطط له، ويبشر به، ويرى فيه الهدف إلى العودة لأصول البحث العلمي بمراحله المتعددة من “فرضية ونظرية وحقيقة”، الفرضية التي تولد من قراءة المعطيات المطروحة لأي فكرة ودراستها واستخرج أفضل نتيجة منها.. مشعل التنوير الذي بدأ مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بكلمة “اقرأ “..
التنوير الذي يعيد للإسلام روعته وحسن مخاطبته وحواره مع الآخر بالتي هي أحسن، لا بسفك الدماء والجور على الناس، مشعل التنوير عودة لقيم الحب والفن والجمال والكمال وإدراك مكارم الاخلاق وقيم الجلال تلك القيم التي ساهمت في نشر الحضارة العربية الإسلامية في العالم. مشعل التنوير لتصحيح الصورة الذهنية التي صدرها أعداء الدين من الإرهابيين للناس, القضاء على الجهل والخرافات التي تسيطر على السلوك الإنساني والوجداني.
لقد سادت الامة الإسلامية العالم بالفن والحضارة والفكر والعلم والأمانة والصدق وحرية الكلمة ورفعة الأخلاق، مشعل التنوير حينما يزور كل محافظة وقرية ونجع وكفر، وحينما يطوف العواصم العالمية لتقديم صورة الهوية الشخصية للثقافة العربية، نحن بهذا المشروع نحاول أن نشارك في إعادة صياغة الوعي الفردي والقومي والجمعي والعالمي وأيضًا الوعي الكوني لعبادة الله الواحد الأحد.
سأقتطف من حواري مع مفكرنا الكبير سؤالين دارا حول مفهوم التنوير في فكر الرجل، وأعتقد أن فيهما الغناء عن كلام كثير يطول:
ــ المفكر الكبير الدكتور محمد حسن كامل رئيس إتحاد الكتاب والمثقفين العرب ورائد من رواد التنوير، وحامل مشعل التغيير، في مناهج الثقافة الغربية التي اكتفت بتنويرها ورفضت كل ما يأتي به الشرق من تنوير وتثوير، حتى ذلك الفيلسوف برتراند راسل وثلة من التابعين له…رؤية جديدة تتفق مع ثلة من مفكري الإسلام الكبار نحو بداية التأريخ للتنوير في العالم بظهور نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام…ورَفَضَها ــ للأسف ــ من أبناء المسلمين جماعة صاروا يؤمنون بكل ما هو غربي، وأصَّلوا وأطَّروا لعصر النهضة وشايعوه وانتصروا له.. بل نادوا بنقل تجربة التنوير الغربي بحذافيرها، ومحاولة غرسها في التربة الإسلامية، رغم التباين الشديد بين التربتين والثقافتين، والديانتين، وما يزال الصراع قائمًا حتى الآن بين المُناهض والمُشايع لهم..
*** من القرارات التي أثنيتُ على نفسي فيها خيرًا أذكر منها قرار سفري لبلاد الفرنجة قاصدًا عاصمة النور باريس، وهنا تبدأ الحكاية :
كنتُ مفتونًا بحركات التنوير في العالم، التنوير الذي يحرر العقل والفكر من براثن التبعية والتخلف، التنوير الذي يرسم ملامح الشخصية حينما تسافر للماضي للبحث عن صورة ذهنية ومثل أعلى ذات قيمة وقامة، ومنارة وعلامة، وراية ودراية..
سافرت كثيرًا بين حضارات ومنارات، وأقلام وأعلام، في سراديب التاريخ، وأروقة الأحداث، بعدة لغات ولهجات، وتقاليد وعادات.. امتطيتُ جواد اليراع من ذرة إلى مجرة، من العودة للمستقبل للسفر في الماضي، من المقام إلى الترحال ومن حال إلى حال حتى حطّت راحلتي وبركتْ ناقتي على شاطئ القرآن الكريم عند أول شجرة وظل.. وهناك وجدت الماء والكلأ والثمار والظل للكل، واحة خضراء في قلب الصحراء هي واحة: ﴿اقْرَأْ﴾، فعل أمر مبني على السكون تكرر في القرآن ثلاث مرات بالترتيب التالي: سورة الإسراء الآية (14)، وسورة العلق الآية (1)، وسورة العلق الآية (3)، وجدتُ أن أول آية في القرآن حسب الترتيب: ﴿ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾، تتوسط الأيتين: ﴿ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ﴾ العلق الآية (3)، الآية (14: ﴿اقْرَأْ﴾) ﴿ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ سورة الإسراء، وتلك هي الآيات الثلاثة التي ذكرت فعل الأمر﴿اقْرَأْ﴾، أول كلمة في القرآن وأول واحة خضراء اهتديت إليها وربطت راحلتي في ظلالها.
ترتيب كلمة اقرأ حسب ذكرها في القرآن الكريم :﴿اقْرَأْ﴾، من هنا أدركتُ التاريخ الحقيقي للتنوير الذي جاء مع أول كلمة في القرآن الكريم: ﴿اقْرَأْ﴾، وليس كما يدعي الغرب أن عصر التنوير بدأ في القرن الثامن عشر .. إذن للتنوير عصرين” :تنوير إسلامي “أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وله السبق على مستوى العالم، لم نقرأ في أي رسالة من قبل عن تنوير عملي مثل تنوير القرآن.. وهناك” تنوير غربي” وهو تنوير ضد قيود الكنيسة في أوروبا وظهر في بداية العصر الثامن عشر ومن ثم كان عليّ أن أسافر لبلاد الفرنجة وعاصمة النور باريس لأصحح تلك المعلومة التاريخية التي روّج لها الغرب ومحو وطمس التنوير الإسلامي في أول شعاع من نور جاء من السماء في مطلع الوحي بكلمة: ﴿اقْرَأْ﴾ التي تكررت في القرآن الكريم ثلاث مرات تتساوى تماماً مع مراحل الشعور في الإنسان ….
يبدأ الشعور بالإدراك عن طريق أي حاسة من الحواس، مثلاً رؤية زهرة هذا إدراك، والوجدان ولد شعورًا نحو تلك الزهرة بالإعجاب مثلا هذا يسمى وجدان، والنزوع هو التحرك بالقول أو الفعل نحو الزهرة مثل قطف الزهرة مثلًا.. كذلك القراءة تبدأ بإدراك كما قال الحق في مطلع سورة العلق: ﴿ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾، بدأ بآية الإدراك ثم آية الوجدان وهي المشاعر الناتجة عن تلك القراءة وهي الآية الثانية التي حملت كلمة “اقرأ” من حيث الترتيب في التنزيل: ﴿ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ﴾.
أما الآية الأخيرة التي ورد فيها فعل الأمر: ﴿اقْرَأْ﴾ هي الآية (14) من سورة الإسراء، وتحمل النزوع والحركة معًا، وهي: ﴿ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ هذا المنهج الشعوري للنور والتنوير أتى به القرآن الكريم لم ينتبه إليه أحد، بينما راحت أبواق الغرب تروج لفكرة ظهور عصر التنوير على أيديهم في بداية القرن الثامن عشر، الأمر الذي يجعلنا أن نطرح سؤالاً على بورصة المعرفة في العقل عن ماهية التنوير أو تعريف التنوير؟
التنوير مشتق من النور.. والنور نقيض الظلام، ظلام العقل قبل ظلام العين !ظلام في الإدراك يعقبه ظلام في الوجدان ويختم عليه ظلام النزوع…ويأتي التنوير مرادفاً للمعرفة بداية من الإدراك مرورًا بالوجدان ثم إستقرارًا في مقصورة النزوع شريطة سلامة المنهج المتبع.
التنوير إضاءة للعقل وخروجه من قصوره الذاتي وحالة الكسل والفوضى والجبن لإعادة ترتيب الصور الذهنية في العقل ومناقشة مصادرها وآلياتها وإعادة صياغتها بمنهج علمي حديث يستخدم آليات العصر من استباط فكر ووضوح رؤيا تدفع البشرية للرقي والتقدم.. وهذا ما جاء به الإسلام دون تعصب أو ميل أو هوى، وهذا ما ترجحه المناهج العلمية الحديثة بلغات متعددة
ــ لا ينطلق المفكر من عرض أفكاره عبثًا عبر مقولات عشوائية بحسب ما تفرضه الظروف والدوافع، ولكنها تأتي عبر مشروع أو مشاريع عكف وسهر عليها، ويحاول جاهدًا بذرها في مجتمعه.. ما هو مشروع الدكتور محمد حسن كامل الذي ينطلق منه، والغايات التي يروم إليها؟
*** سؤال صاروخي يحتاج العديد من المشاركات التي ربما أفلح فيها على الإيضاح والبيان والبرهان .المشروع لابد أن يكون رؤية واضحة المعالم، زاهية الألوان، موسومة بهدف رئيسي، له برنامج زمني.
مما لا شك فيه أن للأنبياء والرسل مشاريع وهي تتجمع في بؤرة التوحيد لله رب العالمين، وأيضًا للعلماء والمفكرين مشاريع ورايات ومحطات ينطلون منها وربما يصلون مرة أخرى إليها.
سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، بعدما وضع أخوته من الأنبياء والرسل من قبله أساس التوحيد لله رب العالمين.
ومما تقدم تعلمتُ أن تكون خطواتي تتقدم من خلال مشروع حضاري علمي ثقافي لبني وطني بل وللعالم كله أجمع .هذا المشروع هو “مشعل التنوير” الذي يبدأ بأهمية قراءة المعطيات المطروحة أمامنا بتأمل وتدبر، وفهم المعاني والمباني، ومسايرة التطور الحضاري والاتصال مع الأصل الفكري.
مشعل التنوير: هذا المشروع الحضاري الذي يجعلنا نرى بوضوح أنفسنا، لنرى العالم من حولنا .مشروع ثقافي يحقق مقولتي الشهيرة التي قلتها على منصة اليونسكو العريقة: (ما لم تصلحه السياسة تُصلحه الفنون والثقافة)، مشروع جماهيري ينطلق من عاصمة القطر في الداخل نحو المدن والحضر والقرى والنجوع والكفور، يحمل رسالة التنوير كيف نعيش وكيف نفكر وكيف نستمتع بالحياة وكيف نقرأ وكيف نتحاور؟
هذا المشروع الذي يبني البنية الأساسية للإنسان، نحن بحاجة لبناء الإنسان العربي، ونحن بحاجة لإعادة صياغة الهوية العربية مرة أخرى. مشروع حضاري بأقوال ثقافية وأدبية وعلمية وفنية تقرب القاصي ليصبح دانيًا في بوتقة السمو بالوطن ضد كل المحن.
هذا المشروع الحضاري يطوف بشعلة التنوير كل دول العالم، ليقدم الصورة الحقيقية للفكر والثقافة والفن والحوار والعقل والمنطق ويصحح مفعوم تصنيف العالم العربي من دول العالم الثالث.
مشروعنا ذات الخيوط الطويلة والمتينة التي تجعل هناك تواصل بين الشعوب بعد فشل بعض الحكومات لإجراء هذا التواصل.
ببساطة مشروعنا يقدم للعالم العربي والإسلامي وللعالم أجمع النسبة الذهبية للعيش سويًا في ظلال السلام بدعائم قيم الجمال والكمال والجلال، مشروع يقدم جنة من الحب والسلام بعد العداء والخصام.
يبدو إيمان الرجل بتنوير “اقرأ” أن يختتم فيقول: (أنا في كثير من الأحيان أتوضأ قبل القراءة لأن القراءة عندي صلاة ومناجاة)..