أقسم أبو عبادة بألا يعود في ذلك اليوم وإلا في جعبته الكثير من الطيور …
خمسة أطفال وبنت واحدة ، وزوجة ، في غرفة تصلح فقط لسكن بعض الدجاج ، القش يملأ الأرض في الخارج ، الجدران الثلاثة تكاد أن تلامس الثرى ، سقف متحرك يقف مجبرا في أعلى ، ساقية ماء تجاور البيت ، لكنها أصبحت أرملة منذ أكثر من سبع سنوات خلت …
الفجر لم يكن بعيدا في هذا الصباح ، نظر الرجل صوب كومة من اللحم تغط في سبات عميق ، تمتم بكلمات مبهمة ثم خرج رافعا رأسه نحو السماء …
_ لا تتأخر يا أبا عبادة … الأطفال جياع …
_ لن أتأخر كثيرا ، سأعود قبل مغيب الشمس …
عادت أم عبادة إلى فراشها الذي مازال ساخنا ، الابن الأكبر ينظر من تحت غطاء رث ، لكنه بقي صامتا .
عاد النهار من غفوته ، الأطفال يلهون قرب البيت ، بينما الأم ( الحامل ) تحلب العنزة السوداء ، الضرع يجود بما تركته بعض الحشائش في بطن العنزة ، عندما انتهت هرع الأطفال نحوها …
ناولتهم شيء من الحليب البارد ، كبيرهم لم ينل نصيبه ، فقد اغتالت الثغور الخمسة كل ما احتواه القدر الصغير …
_ لما لم تشرب يا بني …
_ لا يهم يا أمي … لا يهم … لست جائع …
_ لكنك منذ الأمس لم تذق طعاما …
_ بلى … لقد أكلت بعض ورق شجرة العنب …
سكتت الأم ، فليس للكلام أي معنى الآن ، عاود الأطفال لعبهم …
ضرب أبو عبادة موعدا مع الطيور في تلك البادية ، لم يأبه للحرارة الشديدة ، عيناه تلتهمان الأرض والسماء دون هوادة …
بالقرب منه كانت خيام للبدو تمد رأسها بين أشعة الشمس ، الظهيرة تبدأ بالرحيل شيئا فشيئا …
_ تعال … تعال أيها الرجل …
كان الصوت ممزوجا بلهجة بدوية جميلة ، نظر إلى مكان الصوت فإذا بامرأة تصرخ عليه من خلف ستارة الخيمة …
اتجه صوبها خجلا ، كانت جعبته تحمل طيور صغيرة ، بينما شعره الأشعث يقسو على رأسه أكثر مما يتوقع .
_ أريد ماء يا أختي …
_ ادخل إلى ( الشق ) وسيأتيك الماء والطعام يا رجل …
_ أين صاحب البيت …
_ سيعود بعد برهة فهو مع الأغنام …
دخل الرجل إلى الخيمة ، كان التعب قد أخذ منه مأخذا كبيرا …
حضر الماء بآنية من ( الطوب ) وماهي إلا لحظات فقط وكان الطعام أمامه ، عندما نظر إلى الطعام انهالت على مخيلته وجوه أطفاله الستة ، تراجع قليلا إلى الوراء …
_ تفضل … تفضل …
_ لك الشكر يا أختي … سأفعل … سأفعل …
لم يتم كلامه حتى كان صاحب البيت يصيح من بعيد ، أصيب أبو عبادة بشيء من الرعب ، والخجل ، بينما المرأة كانت تضحك وهي تختلس النظر إليه …
_ لدينا ضيف يا رجل …
_ أهلا وسهلا … على الرحب والسعة …
تصافح الرجلان وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن طويل …
_ لماذا لا تأكل يا صاحبي …
_ لا شيء … لا شيء …
بعد إصرار الرجل تناول أبو عبادة بعض الطعام ، التهم الماء أكثر …
_ هل تقص علي حكايتك يا أبو …
تنهد أبو عبادة طويلا ، ثم قص على الرجل البدوي حكايته ، في ذلك الوقت كانت السماء تتوشح بغيمة من غيوم الصيف …
_ يجب أن أغادر الآن … أطفالي بانتظاري هناك …
_ لك ما تريد … أتمنى أن نلتقي مرة أخرى يا صديق …
قبل أن يغادر أهداه الرجل خروفا وأوصاه أن يطعمه لأطفاله ، لم يكن أمامه أي فسحة للرفض …
ابتعد أبو عبادة عن الخيمة وهو مازال يلوح بيديه للبدوي …
كاد قلبه أن يهجر مكانه فرحا ، حث خطاه نحو البيت ، الغيمة الصيفية تأبى أن تمضي دون أن تترك بعض حبات المطر تنسال عبر حرارة المساء …
أصبح على مقربة من البيت ، رتب أشيائه ثم تابع السير ، نظر إلى مكان ما …
_ يا إلهي أين البيت … أين الأولاد … أين الأولاد …
________
٢ رمضان ١٤٤٠