كنت أتخير وقت الظهيرة ، حين تتوسط الشمس كبد السماء ، مرسلة بحرارتها إلي الأرض ، فتهجع معها الطيور إلي أوكارها فوق رؤوس الأشجار ، وتعود المواشي والفلاحين من الغيطان ، والمتبقي منهم يهجع تحت ظلال الأشجار . الفلاحون تداهمهم غفوة القيلولة ، والمواشي تجتر وهي غافلة ، ومغمضة العينين . وشوارع القرية تكاد تخلو من المارة ، حتي الكلاب والقطط في الشوارع والحارات والزقاق ، تتخذ من الظلال التي تلقيها الأبنية الطينية الواطئة ، ملاذاً من الحرارة الحارقة ، فتجدها مستلقية علي جنبها ، مادة أرجلها دون اكتراث . في هذا التوقيت كنت أتهيأ لرحلة الصيد ، التي تعودت عليها ، وقد تعلمتها من الساعات الطويلة التي كنت أجلسها مع أحد شباب القرية وهو يمارسها ، قبل طلبه للتجنيد في الجيش قبيل الحرب الأخيرة ، وقد ذهب ولم يعد . وأدركنا أنه قد مات هو وآخر من أبناء القرية ، أما الثالث فقد هرب من الجبهة أثناء الحرب ، وبعدها قتل تحت عجلات إحدي سيارات النقل الثقيلة ، التي كان يعمل عليها ( تَبَّاعاً ) ، أثناء القيلولة في ظلها . حيث تحرك السائق دون أن يلحظ وجوده . أحضرت عدة الصيد الخاصة التي قمت بصناعتها يدويا ، حيث قممت بربط فتلة الدوبارة بالغمّاز ، في الثلث الأول منها ، وفي طرف هذا الثلث قمت بربط السنارة ، وفي الطرف الآخر قمت بربطها بعود البوص من أحد أطرافه ، ووعاء صغير من البلاستيك له غطاء ، وعلبة من الصاج . وضعت القبعة القماشية فوق رأسي ، وخرجت مغلقاً الباب خلفي . وما أن شعر الكلب بوقع أقدامي علي الأرض ، حتي نهض مسرعاً من رقدته ، وجري ناحيتي يتمسح بي ، مصدراً صوتا مداعباً ، وهو يهز زيله يمنة ويسري ، في إشارة إلي التودد . ودائماً ما كان يصطحبني في مشاويري ، وكم من معارك خاضها دفاعاً عني في مواجهة الكلاب الأخري . كلب ضخم رشيق قوي . يُقال أنه ابن ذئب لشراسته . كان يزوم فتنخلع منه قلوب الكلاب الأخري . سرنا سوياً حتي خرجنا من القرية ، ملت إلي أحد الحقول المروية لأتحصل علي دودة الأرض . أخذت احفر بأصابعي في طين الأرض بحثاً عن الدود ، فجعل الكلب هو الآخر يحفر مثلما أفعل . تحصلت علي الطُّعْم اللازم . وتحركنا في اتجاه التوتة ، وهي شجرة توت ضخمة عتيقة ، منزرعة علي شاطيء الترعة ، يقال أنها هكذا منذ عقود ، في أوقات الظهيرة تستظل الأسماك في ظلها الممتد إلي داخل الماء بفعل أغصانها المائلة . افترشت الأرض إلي جانب الشجرة ، وفي ظلها ، وأقعي الكلب إلي جواري ، باسطاً ذراعية ، مفترشاً رجليه ، وعيناه تدوران مع حركة يدي ، وقد ملأت الإناء البلاستيكي ماءً ووضعت الطعم في السنارة ، وألقيت بالسنارة في الماء . تنعكس زرقة القبة السماوية علي صفحة الماء ، كما تنعكس الأغصان والأوراق . صفحة الماء الساكنة اهتزت فور تلقيها صدمة القاء السنارة عليها ، فتشكلت دوائر موجية من مركز السقوط ، وأخذت تتولد وتتسع إلي ما لا نهاية ، حتي عاودت صفحة الماء للسكون . وطال الإنتظار قبل أن يتحرك الغماز الطافي ، وفور تحركه خطفت عود البوص خطفاً سريعاً ، فخرجت السنارة فارغة . راجعت وجود الطعم ، فإذا به منتوش من جانبه . اعدت وضع طعم جديد ، وألقيت السنارة . وتكرر الموقف حتي كاد الطعم أن ينفد . وفي كل مرة تجد عيون الكلب الراقد إلي جوار تتابع السنارة في كل مرة ، دون أن يحرك ساكنا ، ويبدو أنه قد أصابه الملل من طول الإنتظار . لقد شعرت بالتعب والجوع دون أن أظفر بسمكة واحدة ، يتسني لي شويها ، علي بعض عيدان الحطب المتكسرة التي أقوم بجمعها ، المحالة إلي جمرات بفعل النيران . نهضت من مجلسي بعد أن سحبت السنارة ، فنهض الكلب لنهوضي . تسلقت شجرة التوت حتي وصلت إلي أحد فروعها العلوية ، فإذا بالطيور تغادر أوكارها علي عجل ، والكلب يفشل في تسلق الشجرة ، فيصدر أصواتاً وحركات ، كأنه يطلب العون في استعطاف بالغ . جلست علي الفرع ، وتدلت قدماي في الهواء .
أطلت خيط السنارة ، وألقيتها في الماء ، بعد أن وضعت عود البوص تحت فخذي . وجلعت أقطف حبات التوت ، أضع واحدة في فمي ، والأخري ألقيها للكلب فيلتقطها بفمه المفتوح ، فيأكلها . وظللنا علي هذا الحال حتي تهادي إلي سمعي صوت خبط في الماء ، فنظرت بسرعة ، فوجدت السنارة قد ظفرت بسمكة كبيرة تحاول الفرار . تحركت يدي بسرعة لنزع عود البوص من تحت فخذي ، فاختل توازني ، واهتز فرع الشجرة نتيجة الحركة المفاجئة ، فوجدتني طائراً في الهواء ، أهوي كما الطير قد أصابه رصاص القناص . وصوت ارتطام شديد بسطح الماء ، مصحوباً بطرطشة شديدة . فقدت اتزاني وتركيزي ، فوجدت نفسي في وسط الترعة العميقة ، نظرت من حولي ، فإذا بعود البوص يشق الماء في اتجا الهروب ، والكلب يقفز في الماء ، ممسكاً ذراعي بفمه ، سابحاً في اتجاه الشط .