يبدو بأنها ساخنة جدا هذه الليلة ، الجار القريب أطفأ أنوار غرفة النوم تاركا نورا خافتا ينبعث من نافذة خشبية تطل على حديقة صغيرة مازالت في ريعان شبابها ، الطريق تعج بالضوضاء والضجيج ، صخب الحانة المطلة على الرصيف البحري يتعالى مع أصوات الموسيقا التي لا تبدو في حالتها الاعتيادية ، بعض الشباب يعبثون دونما هدف معين …
انزوى سامر في ركن غرفة يشوبها شيء من الهدوء الحذر ، قامته الطويلة تكاد تلامس السقف الملتوي ، العنكبوت نسج شبكته هناك ، تدلى شاربه دون أي ترتيب ، لم يكن يعير اهتماما لما يجري في الخارج …
_ هل تريدين النوم يا امرأة …
_ كما تحب يا زوجي العزيز …
_ هل نام الأولاد ، أم مازالوا خلف شاشة التلفاز …
_ كلهم ناموا … أطفأت التلفاز منذ قليل …
ساد بعض الصمت في أرجاء الغرفة ، زقزقة عصفور تكسر حاجز السكون ، كان يقطن بجوار النافذة ، نظر إليه سامر دون أن ينبس بكلمة ، فهما جيران منذ أن سكن هذا البيت …
_ دعيه … فإني أحب أن أسمع غناءه …
_ سأفعل … لن اقترب منه …
_ ألم أخبرك بأني أحبك …
احمرت وجنتا المرأة السمراء الجميلة ، لم تتجاوز عقدها الثاني ، كانت مختلفة عن بقية النساء ، حياءها يطغى على محياها ، عيناها الخضراوين تلمعان في الظلمة …
الليل ينهب الوقت دون هوادة ، الماء الساخن يعانق جسد سامر قبل أن يبدأ الفجر صلاته ، الديك ذو العرف الطويل يهديه لحنا غريبا مع خيوط العنكبوت ووميض الفجر …
_ هل جهزت الحقيبة يا غالية ..
_ نعم إنها جاهزة منذ المساء …
_ لا تنسي ( عدة ) الحلاقة ، وبعض القهوة ، رفاقي يحبونها كثيرا …
_ جهزت لك علبة من ( المكدوس ) أيضا …
_ حسنا … حسنا … هذا جيد …
ارتدى ملابسه العسكرية على هون ، ثلاث نجمات تزين كتفه ، بدا جميلا جدا بذاك اللباس …
_ هل قبضت راتبك يا سامر …
_ لا لم أقبضه بعد … عند عودتي سيكون معي …
_ لكنه قليل … ألا يريدون أن يرفعوه لكم … فإنكم ترابطون تحت الخطر في قلب الصحراء …
_ ما بك يا امرأة … هل المال عندك أغلى من الأرض التي نعيش عليها …
صمتت ، تلعثمت ، اضطربت ، فقد كانت تعلم بأنه يعشق السلاح والوطن ، فآثرت السكوت كي لا تفسد عليه تلك اللحظات الحائرة …
_ لا تذهب اليوم … فإني مازلت أشتاقك …
_ ماذا … وهل أدع رفاقي هناك يراقبون الطريق دون أن يجدوني قادما إليهم …
عادت المرأة إلى صمتها مرة أخرى ، انزاح الليل من مكانه ، بدأت الدجاجات تخرج من ( الخم ) ، الصخب الذي ساد تلك الليلة اختفى كما شبح …
نظر إلى أولاده الخمسة وهم يغطون في نوم عميق ، قبلهم واحدا واحدا ، عانق الصغير بكلتا ذراعيه …
طبع قبلة حارة على جبين زوجته .
_ الأولاد أمانة برقبتك يا علياء ، لا تضربيهم ، لا تزعجيهم … هذا ( المدلل ) اشتري له ما يريد من الحلوى …
_ لا عليك … لا عليك … أنت انتبه لنفسك كي تعود إلينا سالما …
_ الأعمار بيد الله …
احتسى حقيبته ، ربط خيوط حذاءه ، نظر إليها وهو يشد رباط بنطاله ، وميض من البرق ينبعث من عينيه ، النور كان حاضرا كذلك على وجهه …
أصوات الرصاص تضرب أذنيه ، يبدو بأن هناك اشتباك على الجبهة ، جرى بسرعة أكبر …
_ ماذا هناك يا نذير … كان نذير رفيق دربه منذ الصغر …
_ هجم ( الأنذال ) منذ الفجر …
قذف بالحقيبة بعيدا على جمهرة من الشوك ، الساتر الترابي كان يترنح تحت وطأة الرصاص المنهمر ك المطر ، ساعات تمضي بطيئة جدا ، المعركة تلفظ أنفاسها الأخيرة ، الغبار يصعد إلى السماء متمهلا ، صراخ القائد يرتفع ، كان يتفقد جنوده فردا فردا ، بعضهم يفتش عن الآخر …
_ أين سامر … أين سامر … صرخ نذير …
_ إنه هناك … انظر …
جرى الاثنان صوبه ، اللون الأحمر كان حقيقيا هذه المرة ، أمسك بيد نذير وشد عليها بقوة …
_ في جيبي ورقة يا نذير … أعطها لزوجتي …
_ ولا تنس الحقيبة ، فيها أشياء لكم أيضا …
دوى صراخ سيارة الإسعاف ، اختفت بسرعة من ذاك المكان الصحراوي …
في صبيحة اليوم التالي كان نذير وجها لوجه مع علياء ، كانت تعرفه جيدا ، إنه الصديق الذي لم يفارق سامر منذ سنوات ، خانته الكلمات في تلك اللحظة ، دمعة حارة تضرب وجنتيه …
مد يده إليها بالورقة ، قرأتها بهدوء ، ارتسمت ابتسامة على ثغرها المثير … الصغير كان يرسم صورة ما ، الحقيبة أيضا كانت حاضرة آنذاك …
________
١٧ رمضان ١٤٤٠