تجميع د. هالة الجبالي
ليست لوحة عادية، فقد رسمها ويليام هور رسَّام إنجليزي في عام 1734، وظاهرياً تبدو أنها مجرد لوحة.
لكنَّ ما يميزها حقاً عن جميع لوحات المشاهير الإنجليز في القرن الثامن عشر هو أنَّها اللوحة الأولى لشخصٍ آدم (افريقي).
وحالما تعرفون قصة الشخص الذي يظهر فيها، واسمه (الشيخ أيوب سليمان جالو )، ستدركون ما الذي يجعل هذه اللوحة استثنائية.
وُلِد ديالو (جالو) وتربَّى في شرقي السنغال لعائلةٍ مُسلمة بارزة، وعُرِف بذكائه الشديد وذاكرته القوية منذ نعومة أظفاره.
فبحلول عامه الخامس عشر، كان ديالو قد حفظ القرآن الكريم كله، ودرس تعاليم المذهب المالكي حتى فهمها وحفظها.
لكن قدّر الله تعالى ان ديالو،(جالو)
سرعان ما تغيَّرت حياته من حياةٍ مليئة بالدراسة والعلم إلى جحيم العبودية، إذ كانت السنغال من أكبر ضحايا تجارة الرقيق العابرة للأطلسي.
ديالو (جالو) في الأسر
وبحلول عامه الثلاثين، هاجم القراصنة الصليبيون الانكليز قريته الساحلية واختطفوا شباب القرية واحدهم ديالو (جالو)الذي أُسِر واستُعبِدَ وشُحِنَ بحرا إلى الولايات المتحدة، ورغم الوحشية والإساءة اللتين تعرَّض لهما ظلَّ ديالو ملتزماً بشعائر الإسلام، فكان يذهب إلى غابةٍ قريبة ليُصلي الصلوات الخمس اليومية.
وبينما كان يُصلي أهانه أحد الأطفال ورمى التراب وقاذوراتٍ في وجهه فقرَّر ديالو الفرار، لكنَّه أُسِر مجدداً وسُجِن.
من سجنه عكف ديالو(جالو) على كتابة خطابٍ إلى والده في إفريقيا، لكنَّ هذا الخطاب وقع في يد جيمس إدوارد أوغلثورب، مدير الشركة الملكية الإفريقية، ومؤسِّس مستعمرة جورجيا الأمريكية.
وحين قرأ أوغلثورب الخطاب، كتب أنَّ كلمات ديالو أثَّرت فيه، ووضع ترتيباتٍ لإطلاق سراحه وإرساله إلى إنجلترا ليعيدوه الى بلده.
ديالو (جالو)في إنجلترا
وصل ديالو(جالو) بالفعل إلى إنجلترا في عام 1733، استُقبِلَ بصفته رجلاً حراً وسط الشعب الإنجليزي، يتكلم الانكليزية بطلاقة ، فصنع صداقاتٍ في دوائر النخبة، وكان كثيراً ما يدخل في مناظراتٍ مع قساوسة وأساقفة مسيحيين. في وقتٍ عُرِف بالظلم العرقي الشديد، انبهر الناس بذكائه ومعتقداته التوحيدية وتقواه.
وتواصل الرسَّام ويليام هور معه لرسم لوحته الشهيرة، ما يُضفي أهميةً على هذه اللوحة ليس فقط أنَّ الشخص الظاهر فيها أسود البشرة، بل أيضاً مظهره في اللوحة.
فحينها كان الأشخاص ذوو الأصول الإفريقية يُرسمون في القرن الثامن العشر، كانوا يظهرون في جميع اللوحات تقريباً في وضعياتٍ عنصرية مُهينة، وكانت ملامح وجوههم تُرسَم بطريقةٍ غير طبيعية.
ولم يظهروا قط في مقدمة الصور، بل كانوا يُوضعون في الخلفية غالباً، ويظهرون على أنَّهم أشخاصٌ مخيفون وحشيون.
لذا فهذه اللوحة هي اللوحة الأولى التي تُظهِر مسلماً إفريقياً مُحرَّراً من العبودية، بصفته إنساناً، بل ونبيلاً كذلك.
فوضعيته واتَّجاه مقدمة جسده اختِيرا بعنايةٍ ليُظهراه محبوباً بدرجةٍ أكبر، وتعابير وجهه لطيفة وليست شريرة أو مُزعجة.
لكنَّ المميز في الصورة حقاً هو الكتاب الأحمر المُعلَّق في رقبته، فهذا الكتاب واحدٌ من ثلاثة مصاحف كتبها ديالو من ذاكرته فقط، في أثناء احتجازه في السجن.
لذا فمن عدة نواح، تعرض هذه اللوحة نبذةً موجزة عن قصته الاستثنائية : عالم مسلم من غرب إفريقيا استُرق وتعرَّض لإساءاتٍ جسدية ونفسية، ثم نال الاحترام والحرية من مجتمعٍ كان يعتقد أنَّه إنسان أدنى منه منزلةً، ولم يفقد طوال سنوات عبوديته اعتزازه بهويته: رجلٌ مسلم داكن البشرة.