من يتابع الاهتمام العالمي بمجريات الأمور في بريطانيا، والأزمة السياسية التي تعانيها نتيجة تداعيات ما يعرف بـ”بريكست” اي خروجها من الاتحاد الأوروبي، يدرك أن بريطانيا ليست مجرد دولة في أوروبا، لكنها تحمل أهمية عالمية خاصة، ليس فقط لأنها واحدة من أهم الاقتصادات أو القوى العسكرية الكبرى في العالم، وإنما لأن بريطانيا كانت تمثل إمبراطورية كبرى كانت تسيطر على مساحات شاسعة من العالم لسنوات طويلة، فضلا عما مثلته من أهمية في الفكر الإنساني عبر تراث ممتد من الأفكار والنظريات السياسية والأعمال الأدبية التي تزداد رسوخا في وجدان البشرية مع الأيام.
وتحت عنوان “شروق الإمبراطورية البريطانية وغروبها”، يرصد الكاتب والمؤرخ الأمريكي لورانس جيمس، تاريخ تلك الإمبراطورية التي وصفت بأنها لا تغرب عنها الشمس، في كتاب موسوعي، صدرت ترجمته العربية عن المركز القومى للترجمة من ترجمة وتقديم عبد الله عبد الرازق إبراهيم، ومراجعة شوقى عطا الله الجمل.
الكتاب يعرض تاريخ العالم من خلال مراحل تطور الإمبراطورية سواء فى الأمريكتين أو فى أوروبا أو آسيا أو فى إفريقيا عبر أكثر من ثلاثة قرون، وبالتالى فهو مرجع كامل يناقش قضايا دولية وتاريخية لواحدة من أعرق الإمبراطوريات وعوامل ازدهارها وتطورها ثم مراحل الانهيار، والتركيز على حرب السويس باعتبارها من أهم عوامل انهيار هذه الإمبراطورية، ودور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فى قيادة مصر، وإدارة معركة السويس، التي كانت بمثابة الفصل الأخير في مسار الإمبراطورية البريطانية.
يتحدث جيمس في الجزء الأول من كتابه عن تأسيس أمريكا الشمالية وتطور هذه الولايات والتوسع غربا وشرقا، وتكوين القوة الإمبراطورية البحرية في مناطق العالم المختلفة، فضلا عن الإشارة لتوسعات بريطانيا في العالم الجديد وتكوين الإمبراطورية الأمريكية، والصراع بين الولايات المتحدة وبريطانيا حتى استقلال أمريكا وخروجها من عباءة الإمبراطورية، فيما بعد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
ويتناول الجزء الثاني أيضا توسعات الإمبراطورية في المحيط الهادي، وتكوين كل من أستراليا ونيوزيلاندا إلى جانب امبراطوريات مثل اليابان والصين وغيرها من المناطق التي دخلت في صراع مع رجال الإمبراطورية.
ويعالج الجزء الثالث توسعات الإمبراطورية في مختلف أنحاء العالم من خلال أحد عشر فصلا ركزت على القوة والتجارة والتوسع البحري، ودور البريطانيين في الاستعمار الجديد مع تركيز مكثف حول الهند التي اعتبرها معجزة العالم منذ 1815 حتى 1905.
ولم يغفل التوسع البريطاني في جنوب القارة الإفريقية في دراسة شاملة عن جنوب القارة والتوسع البريطاني في هذه الأنحاء، وبالطبع الصراع البريطاني مع فرنسا حول نهر النيل والتوسع البريطاني لمحاولة مد خط سكة حديد القاهرة – كيب تاون وما صاحب هذا من ثورة المصريين ومقاومة التوسع البريطاني في كل من مصر والسودان.
ويركز المؤلف على الاستعمار البريطاني للقارة الإفريقية وكيف أن بريطانيا بعدد قليل من الرجال والعتاد استطاعت أن تحتل مناطق مهمة في القارة خاصة غربها، حيث استعمرت كلاً من نيجيريا وغانا وجامبيا وسيراليون التي كانت أساسا مستعمرة أنشئت خصيصا للرقيق المحرر من المستعمرات البريطانية بعد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
ويحلل المؤلف كيف حكمت بريطانيا هذه المناطق المدارية وفي ظل مناخ استوائي رطب من خلال سياسة الحكم البريطاني غير المباشر، خاصة في نيجيريا اعتمد على الإدارة الوطنية والحكام المحليين من المسلمين ونجحت بريطانيا من خلال هذه السياسة في توفير النفقات والعتاد والرجال وظلت تسيطر وتتحكم في هذه المناطق حتى الاستقلال في القرن العشرين.
ثم يتطرق الكتاب إلى مراحل الانهيار والتركيز على حرب السويس، باعتبارها من أهم عوامل انهيار هذه الإمبراطورية ودور جمال عبد الناصر في مصر، وجومو كينياتا وثورة الماو ماو في كينيا والزعامات الإفريقية في غانا، ودور كوامي نكروما وأحمد سيكوتوري في غينيا وليوبولد سنجور في السنغال، وغيرهم من القيادات الوطنية الإفريقية التي أجهزت على الإمبراطورية.
ويمتاز الكتاب بأسلوبه الشيق والجذاب في عرض المادة التاريخية، خاصة أن المؤلف قام بجولات وأجرى مقابلات واستمع إلى أقوال الساسة والمؤرخين، واعتمد على الكثير من الوثائق والدراسات والتحليلات التي جعلت من كتابه ركيزة أساسية وموسوعة تاريخية سياسية لإمبراطورية غيّرت مجرى التاريخ