وداعا أستاذ نبيل!
أثناء قسوة الحياة وتلاطم أمواجها يتسلل الموتُ بكل خِفة لينتقي أجمل ما فينا؛ حتى يجعل الحياة من حولنا أكثر خوفا وأقسى عيشا! والغريب في الأمر أن ذاك الموت المهيب انتقى إنسانا لا يضع للحزن وزنا، فهو بسَّام المُحَيَّا – دائما – يسير بين البشر كالعِطر الفوّاح الذي ما إن يقترب من أحد حتى يمنحه بسمة صافية تعينه على مواصلة الحياة بروح واثقة في أن القادم أجمل!
تسلل إلينا الموت منذ أيام فظفر بإنسان عزيز على نفوسنا جميعا إنه ( الأستاذ نبيل كامل شاكر رضوان) الموجه بالأزهر الشريف سابقا..
جمعتني بالفقيد الراحل ذكريات كثيرة كلها تشهد بصفاء قلبه وكرم أصله ونفاسة مِعدنه، وقد انضاف لذاك الصفاء حسن تقدير للأمور، إلى جانب معرفته التامة بأقدار الرجال، فما رأيتُه ولا سمعتُ عنه أنه أخطأ – يوما – في حق أحد؛ لذا كانت النتيجة الطبيعية لذاك محبة جميع الناس له كبيرهم قبل صغيرهم وصغيرهم قبل كبيرهم، فلقد اجتمعوا على محبته كما اجتمعوا على استنشاق الهواء وشرب المياه، فكما أن هذين الفعلين ( استنشاق الهواء وشرب المياه) لا يستطيع أحد أن يعيش دونهما كذلك كانت محبة فقيدنا الراحل لكل من يعرفه وتعامل معه!
وقد كنتُ من هؤلاء الذين أحبوا فقيدنا الراحل ، أحببتُ صمته حين يتحدث الناس، وأحببتُ حديثه حين يصمت الناس، فحديثه طيب لا يُلقي بكلمة إلا لتنتشلك من أحزانك وتقع من نفسك موقع الدواء الناجع الذي يبرأ السقم، وصمته حكمة تعلمك أن الحياة ليست على وتيرة واحدة، ففيها السكون والحركة، وذلك على اختلاف البشر الذين تُعاملهم ، فمِنهم مَن إذا تحدثتَ إليهم زاد قدركَ وقدرهم، ومنهم مَن إذا صمت أمامهم ألجمتَ ألسنتهم وحفظتَ لنفسك قدرها من الاقتراب منهم…
لفقيدنا الراحل سمات تخصه وحده، ولا يمكن لأحد مشاركته فيها، وإن حاول أحد تمثلها لا تليق به، فمن ضمن سماته الجليلة أنه عندما يحدثك ويسألك عن أحوالك وأخبارك تشعر من أول وهلة أنه قريب لقلبك وأحد أفراد أسرتك الذين يهتمون لأمرك، فقد كان يرحمه الله – تعالى – نموذجا رائعا في التعايش الودود مع جيرانه، فأذكر أني بعد تهنئته بعودته من أداء العمرة قال لي بابتسامته المعتادة :
– لقد دعوت لك ولأبيك وللبلدة كلها عند الكعبة…
وإلى جانب تعايشه الإنساني الراقي كان مُقيلا لعثرات البعض، فإذا رأى أن الحوار سيشتد بين اثنين يتدخل بحكمة؛ ليغير وجهة الحديث بمزحة لطيفة، تجعل طرفي الحديث يتبادلان الابتسامات متجاوزين سبب توتر الحديث بينهما!
لقد كان رحيل فقيدنا غير متوقع ، فبمجرد أن سمعتُ بخبر وعكته الصحية ظهر الخميس الماضي ودعوت الله بشفائه العاجل سرعان ما داهمني نبأ وفاته مساء اليوم نفسه، ففي هذه الليلة نمتُ مبكرا – على غير العادة – واستقيظت على صوت المنادي وهو يذكر اسم فقيدنا معلنا رحيله، لم أتمالك نفسي واعتدلتُ وفي بصري صورة الفقيد الراحل ببسمته المعتادة، وتردد على لساني سؤال ارتدى زي العتاب :
– أهكذا ترحل يا أستاذ نبيل دون مقدمات؟!
وما لبثتُ إلا قليلا لأدندن الإجابة كأنها آتية بصوت فقيدنا قائلا :
– هكذا يرحل الطيبون!
لقد كان رحيل فقيدنا مريرا على قلوب من أحبوه وتعاملوا معه، فوالله لثلاث ليال متتالية من بعد رحيله وأنا لا أستقر على جنب في مخدعي، كلما حاولت النوم تراءت لي صورته وهو باسم الوجه تذكرني بموقف حدث لي معه، وما برح لساني من قولي :
– الله يرحمك يا أستاذ نبيل..
أقف فأقولها، أحدّث صديقي فأقولها، أقترب من مكتبي فأقولها، لازمتني في كل نشاط لي..
في الختام لا أملك إلا أن أقول :
وداعا أستاذ نبيل، وعزؤانا أنك عشتَ حياة كلها ود وألفة مع الجميع، وتركتَ من خلفكَ ذكرى طيبة وسيرة عطرة ستظل بين الناس أمدا طويلا، حتى المسجد لن ينساك، سيظل صوتك أثناء صلاة التروايح بين أسماعنا لن يفارقنا وأنت تقف قبلنا جميعا محفزا لنا قائلا :
صلاة القيام أثابني وأثابكم الله..
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر لكَ ويرحمك ويسكنك فسيح جناته، وأن يبارك في ذريتك من بعدك؛ ليكونوا خير خَلف لخير سلف.. اللهم آمين..