عرض بعض الشباب في بني سويف على تجار الآثار بيع قطع أثرية داخل مقبرة فرعونية، وتم بيع جميع محتويات المقبرة.
إلى هنا فالجريمة معتادة، وكثيرا ما تحدث في صعيد مصر الممتلئ باطنه بخيرات من كنوز توارت تحت التراب تركها لنا أجدادنا القدماء .
ثم طالعتنا الصحف بخير غريب عن جريمة نصب واحتيال قام بها بعض الشباب، حيث أوهموا تجار الآثار بوجود مقبرة ممتلئة بما لذ وطاب وما تشتهيه الأنفس من تماثيل وآثار فرعونية لا تقدر بثمن، وكانت هي نفسها المقبرة التي بيعت في بني سويف !
المفاجأة الكبرى أن هذه المقبرة قد اكتشفوا أنها فنكوش وأن عمرها عام واحد وليس آلاف الأعوام !
لكم أن تتخيلوا عاما كاملا يعملون فيه بهذه المقبرة، ويجعلونها نسخة مطابقة لمقابر قدماء المصريين من حيث التصميم والعمق داخل الأرض ورسم نقوش مطابقة لنقوش الفراعنة في دقة مذهلة تثير الدهشة لدرجة أنها خدعت تجار الآثار الذين لا يدفعون أي مبالغ لأي أثر دون أن يمر على خبراء مثمنين لأنهم يدفعون فيها الملايين !
هذه الحادثة أثارت عدة تساؤلات :
من يمتلك هذه القدرة الغريبة على الصبر سنة كاملة في تصميم مقبرة تضاهي مقابر الفراعنة؟
أي مهارة وعبقرية تمتع بها هؤلاء النصابون في النحت والرسم والتصميم جعلتهم يخدعون تجار الآثار ؟
من أين أتت تلك الفكرة ( الخارج الصندوق) كما وصفها البعض ؟
كيف استطاعوا إخفاء معالم الجريمة عاما كاملا دون أن يشعر بهم أحد ؟
كيف تغلبوا على عوامل الجو تحت الارض من رطوبة وحرارة وقلة الأكسجين وجميع العوامل والعوائق عاما كاملا ؟
كل هذه الأسئلة تدفعنا إلى إثارة أسئلة خارج نطاق الجريمة، وتدور حول محور واحد يجمع شتاتها وهو :
ماذا لو استثمر المصري عبقريه في الطريق الصحيح.. ؟
تلك العبقرية التي خدعت تجار الآثار والتي صنعت تلك المقبرة بشكل تعجّب منه العاملون في مصلحة الآثار أنفسهم بل وصفوها بالمذهلة ! ..
لماذا لم توجه جهودهم إلى عمل يدر ربحا حلالا ؟
الجميع ينقل الخبر بسخرية مشوبة بالإعجاب من هؤلاء العباقرة الذين استحقوا لقب أحفاد الفراعنة وكأنهم امتداد لأجدادهم (من حيث الذكاء والفن والدقة وليس من حيث الأخلاق والعظمة) .
ثم دعونا نتساءل :
الأموال التي أنفقت في تجهيز تلك المقبرة ألم يكن من الأفضل أن تنفق في مشروع يحقق ربحا حلالا بلالا لهؤلاء العباقرة ..
لك أن تحسبها ماديا :
كم تكلف بناء حجرة وتجهيزات واستخدام المكيفات تحت الارض والاستعانة بالعمال في الحفر والبناء والفنانين والنحاتين والرسامين وشراء التماثيل والعمل ليل نهار طيلة عام كامل وجهد دؤوب متواصل..؟ يا صبر أيوب !
الموضوع رغم ما يحمله من سخرية، فقد حمل بطياته قضايا عدة وأثار العجب والإعجاب حول ضياع الكفاءات واستثمار الذكاء في الحيل والنصب والتلاعب في جريمة متعددة الأركان، وهي لفيف من عدة جرائم في حادثة واحدة :
بيع آثار، والنصب والاحتيال
اما الجريمة الكبرى التي لم ينص عليها القانون للأسف، فهي إساءة استخدام العبقرية !
إن العباقرة في أي مجتمع يشكّلون ما يقارب ٢.٥ في المئة، وهم سلاح ذو حدين :
فإما ان نكتشفهم مبكرا، فذلك الفوز العظيم؛ حيث يتم استثمارهم فيما يفيد؛ لنفع أنفسهم ومجتمعهم، بل البشرية في كثير من الأحيان، أو على النقيض فيتحول هذا العبقري إلى مجرم يزعج المجتمع ويكدر الأمن العام بجرائم لا نعرف لها مصدرا وتعجز أقوى الأجهزة الأمنية عن اكتشفاها وتظل ألغازا تعيي الباحثين عن الحقيقة !
فهل لدينا البرامج التربوية والتعليمية للاكتشاف المبكر للعباقرة ؟ وماذا لو اكتشفناهم ؟ هل سنجيد استثمار تلك الثروة ؟ أترك الإجابة لعلماء التربية والمختصين في علم الاجتماع .
الطامة الكبرى أن الجيل الجديد للأسف الشديد لا يمتلك الصبر، ولا أخلاق الكفاح التي تربى عليها آباؤهم وأجدادهم .. الكل يلهث وراء الربح السريع الذي يرفع الشخص فجأة من الحضيض إلى مراتب سماوات المجد والثروة، فيضيع العمر في صفقات خاسرة؛ اعتمادا على الذكاء وحده، ولا يعرفون أن الذكاء دون الخبرة وبلا حكمة في استثماره من مسببات الفشل !
أذكر تلك القصة التي قرأتها منذ فترة عن الفنان العالمي بيكاسو قبيل وفاته تقول :
في إحدى المقاهي المتواضعة ، جلس بابلو بيكاسو في أواخر عمره يحتسي قهوته، وتناول المنديل الذي يوضع تحت فنجان القهوة وأخذ يرسم عليه صورة كوب قهوة منسكب على الطاولة …
وفي الخلف كانت هناك فتاة شابة تشاهد رسمه هذا بإعجاب ودهشة، ولم تعرف أنه من أعظم الرسامين في تاريخ البشرية فانبهرت بهذه اللوحة الإبداعية المتقنة، بينما لم يكن يعيرها أي اهتمام بما يقوم به ، كان يخربش فقط …
فلما شرب قهوته، همّ إلى الباب خارجا، وأخذ معه تلك الورقة ليلقي بها في الحاوية . استوقفته تلك الشابة :
– انتظر أرجوك سيدي، هل يمكن أن تبيع لي تلك الورقة ؟
توقف بيكاسو و استدار إليها :
– اه طبعا بألف دولار !
صعقت الشابة من الثمن !
– ماذا ؟ ألف دولار !! لابد أنك تمزح ! الامر لم يأخذ منك أكثر من 10 دقائق !
ابتسم بيكاسو من كلامها وقال كلمة تُخلَّد في التاريخ :
– الامر لم يأخذ مني 10 دقائق ، بل أخذ مني ستين سنة ، لأرسمها في عشر دقائق !
ويقال إنه أعطاها الرسمة هدية بعدها، ولكن قبل أن يعطيها، فقد علمها درسا لن تنساه طيلة حياتها .. إذ ليست الضربة المئة هي التي كسرت الحجر؛ فقد سبقها تسع وتسعون ضربة .. الأمر عند بيكاسو لم يستغرق عشر دقائق، بل استغرق ستين سنة؛ كي يستطيع أن يرسمها في عشر دقائق .. ياللروعة !
فهل استوعب شبابنا الدرس؟