إعداد/ محمد مأمون ليله
،،،،،،،،،،،،،
تنظم دار الإفتاء المصرية مؤتمرها العالمي الثاني الذي تعقده لدور وهيئات الإفتاء في العالم، برعاية كريمة من الدولة المصرية؛ للحديث عن الفتاوى ومشكلاتها، والفوضى التي لحقت بها، خاصة في ظل هذه الغيوم والفتن التي أصابت الأمة المسلمة، وانتشار موجات عظيمة من التطرف والغلو لم تسلم منها كثير من البلاد، والمطلوب أن تقدم خطة دقيقة لمواجهة هذه المشكلة، والاتفاق على صيغة محددة وضوابط تلتزم بها الدول ودور الإفتاء فيما يتعلق بالفتاوى؛ لتكون أداة بناء لا هدم، ومؤسسية لا فوضى وعبثية.
وفي رأيي أن هذا الوضع يحتاج في إصلاحه إلى ضوابط منهجية، وإدارية، وعلمية، وسياسية، وتعاون..
وألخص حديثي في عدة نقاط أرى أنها مهمة للنقاش:
أولا: النقاط المنهجية:
1- من المعلوم أن العلوم الشرعية تخصصات، وهناك أصول ينبغي مراعاتها في الفتوى، وعلوم ينبغي أن تتوافر في الفقيه، مع فقه كبير للواقع، وهذا لا يحسنه كل إنسان، ولا يقدح في العالم ألا يكون متخصصًا في الفقه مثلا، فالناس مواهب، والفقه رزق قبل أن يكون علمًا، ومن هنا يلزم مراعاة التخصصية وتقديمها والاستفادة منها.
2- لا يمكن أن نسير بالأمة على قول واحد في الفروع الفقهية، وعلينا أن نربي الناس على فقه الخلاف، وقبول الآراء الفقهية المتعددة واحترامها، وأن يسأل الإنسان العامي من يثق به من علماء بلده خاصة المؤسسات، أو يلتزم بقول مذهب فقهي إلا ما تأكد فيه غلطه وشذوذه؛ لمصادمته النص الصريح الصحيح مصادمة ظاهرة فيلتزم الحق، مع التفريق بين القول الشاذ وصاحبه، فيحترم العالم ويوقر، ولا يؤخذ بقوله الذي نص جمهور الأمة على شذوذه، وأما المجتهد ففرضه الاجتهاد، إلا إذا عجز أو لم تواكبه الظروف فله تقليد من يراه من العلماء أهلا لذلك، وأن نعلمهم عذر المخالف متى كان له دليل ولو كان ضعيفا، وأن العلماء وضعوا قواعد وأصول يسيرون عليها في فهم النصوص الشرعية، ليست مزاجية منهم أبدا، ومن هنا يسود الاحترام والمحبة بين طوائف الأمة، وننطلق نحو البناء والتجديد، وستختفي مظاهر العبثية والشذوذ الفقهية المعاصرة، والتي يتمثل بعضها في منهجية أسموها القول الراجح، الذي هو في الحقيقة تقليد لبعض أهل العلم الذين لم يبلغوا قدرا وعلما ما بلغ أئمة المذاهب المتقدمين.
3- أن ندعو الناس إلى العودة إلى كتب المذاهب الفقهية، مع فهمها جيدا وتنزيلها على أرض الواقع، فلا ننزوي على ما فيها من أفكار، بل نأخذ منها الفكر ونطور بما يفيد مجتمعنا، ولا بأس من عدم أخذ بعض الأقوال المتشددة لبعض العلماء، فكل أحد من الناس يؤخذ منه ويرد عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذه الكتب ضمانة قوية للحاظ على فكر الناس؛ لأنها بنيت على أصول وقواعد، وليست كفقه بعض المعاصرين ممن لا أصول عندهم ولا قواعد، وهذا الكلام يجب أن يسري على المفكرين المعاصرين، فلا يتحدث على الأمة من لا أصول له ولا قواعد نحاكمه إليها عند الاختلاف؛ لأن هذا لا يليق بأمة اقرأ.
4- أن يسأل الإنسان علماء أهل بلده أعني بذلك المؤسسات، ولا نستورد فكرنا الديني من الخارج، فكل بلد له واقع يختلف عن الآخر، وعادات وتقاليد، فضلا عن هيمنة الهيئات السياسية على بعض دور الإفتاء في بعض الدول؛ فتحركها لأجل مصلحتها، وتخرج الفتاوى على هذا الأساس؛ فتضر غيرها من البلدان؛ ولهذا يجب احترام خصوصية دور الإفتاء في كل بلدة، إلا إذا رأتْ هذه الدور انحرافا كبيرا من إحدى دور الإفتاء في إحدى الدول فلها أن تعاقبها بما سنذكره قريبا.
5- أن نغرس في الناس فكرة الحذر من التقول على الله بغير علم، فلا يتكلم في الدين من لا يحسنه، ولا في علم من لا يفهمه، وأن يرجع كل منا إلى الحق متى راءه، فالفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيرا منه لا يسوغ له الاجتهاد أبدا، أما الفقيه المنتهي اليقظ الفهم المحدث، الذي تلقى العلوم على أصولها من كتب أهلها، فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيد ، وتأهل للنظر في دلائل الأئمة، فمتى وضح له الحق في مسألة، وثبت فيها النص، وعمل بها أحد الأئمة الأعلام كأبي حنيفة مثلا أو كمالك، أو الثوري، أو الأوزاعي، أو الشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، فليتبع فيها الحق ولا يسلك الرخص، وليتورع، ولا يسعه فيها بعد قيام الحجة عليه تقليد.
6- ينبغي أن نعلم الناس أن الأئمة كان عندهم ورع وديانة، وهم اتقى من أن يتركوا الحق إذا ظهر لهم، ولكنهم نظروا وتدبروا؛ فأوصلتهم قواعدهم وأصولهم العظيمة إلى هذه الآراء الموجودة، وأن يُحجر على السفهاء الذين ينتقصون من العلماء، ويقولون: خالف السنة الصحيحة، فإنه لا يوجد عالم إلاّ وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أدلة كثيرة لمعارض راجح عنده، من أجله ترك العمل بهذا الحديث الذي تراه.
7- الالتزام ما أمكن في الخطاب الدعوي في الإذاعات والوزارات الدينية بالصحيحين، حتى يعيدوا أنفسهم ويضبطوا أحوالهم، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة، ثم لا بأس بعد ذلك من التوسع؛ لأن غير الصحيحين تحتاج ناقدا قويا، بصيرا بالعلل، ونحن نريد غلق باب الشذوذات الفكرية التي تعتمد أصالة على أحاديث منكرة ظنها بعض المعاصرين صحيحة!
8- ينبغي للأزهر الشريف والمؤسسات الدينية ألا تتصدر بصورة رسمية صريحة بمفردها برامج الإفتاء على القنوات الإعلامية، خاصة إذا لم تكن خاضعة لها؛ لأن الطعن حينئذ سيكون فيها، حيث سيحملونها أي خطأ صدر من الشيوخ الذين أوفدتهم إلى القنوات الإعلامية، ومن هنا سينهدم الأزهر والمؤسسات، وتنعدم ثقة الناس بها مطلقا؛ ولذلك لابد من الإسراع في إنشاء قنوات تتبع هذه المؤسسات الدينية.
وماذا سيحدث لو تم إلغاء برامج الفتاوى أصلا خاصة تلك التي يتصدرها غير المتخصصين، ونوجه الناس إلى دور الإفتاء والأزهر الشريف والمؤسسات الدينية في كل بلدة؟
ولهذا يجب على دور الإفتاء أن تنشئ لها أفرعا في كل المحافظات والبلاد، ومقرات، وأرقام ساخنة، ويُنشر هذا بين الناس، ومن هنا نتجه إلى المؤسسية، ونضبط أمر الفتوى، وأما أمر الدعوة إلى الله فالأمر فيها أوسع، فليدع من شاء؛ إذا كان صاحب فكر معتدل متزن.
9- أن نعلم الناس أن هناك فارقا بين المفتي والداعية، وعلى الداعية ألا يتكلم في ما لا يفقهه، ولا في الأمور الخلافية، إنما تنحصر مهمته في التربية وإيقاظ الأمة، وإيصال وعي أخلاقي وتوعوي سليم.
10- أن نبين للناس أن العلماء غير معصومين، فهم بشر يصيبون ويخطئون، ويجهلون ويعرفون، فلا ينبغي أن نأخذ منه ما تبين خطئه فيه، بل نناقشه لمعرفة السبب، ويعذر، ويعرف له قدره، حتى لا تهتز ثقة الناس في المؤسسات بفتوى خاطئة لأي عالم.
ثانيا: النقاط الإدارية:
1- عقد اجتماعي نصف سنوي بصفة دورية لدور الإفتاء في العالم؛ لمناقشة القضايا الجديدة، ومتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من أفكار، ومحاسبة الدُّور التي خرجت عن مجالها، أو سمحت لقيادتها السياسية بتوجيها إلى خلاف الحكم الشرعي، أو حرفت الفتوى، ومن هنا يلزم وضع قانون لمؤتمرات دور الإفتاء منظم لها، ووضع أدوات رقابية صارمة، وتنظيم الأمور المالية، والإدارية.. بمشاركة كل الدول.
2- لا بأس أن تُعقد جلسات مناقشة وحوار لكل المفكرين مع الأزهر وغيره من المؤسسات، ويتفقون على مشروع إعلامي اجتماعي عالمي، يقوم به الكل مع الكل؛ ليكون نواة لتوحيد الأمة المسلمة على مشروع ينبثق منه مشروع أكبر فيما بعد، حتى نتجنب الصدامات الفكرية والخلافات على القنوات الإعلامية والصحف، وان ترعى الدول المسلمة ما يتمخض منها بصورة رسمية؛ لنضمن استمرارها وفعاليتها.
3- تطالب كل دار إفتاء من نظامها الحاكم بسنّ قوانين للأخذ على يد من يخبط عشواء في الشرع الحنيف بجهل أو لغرض، وتطبيق ما يلزم من قوانين لمنعه وإبعاده، حتى لا يحدث بلبلة في المجتمع، مع تفعيل النقاش والحوار مع المفكرين وأصحاب التوجهات.
4- الاستفادة من كل أصحاب الخبرات والفكر الديني وغيره، ولو لم يكونوا من تلاميذ هذه المؤسسات الدينية، لأنا نريد مشروعا إسلاميا كبيرا يجمع الكل تحت لواءه، ويقوم به ومعه.
إعداد/ محمد مأمون ليله
مدرس مساعد بقسم الحديث الشريف وعلومه بجامعة الأزهر الشريف، وكاتب وباحث في الشؤون العامة والدينية.