الدكتور/علي عبدالظاهر الضيف
هناك عبارات مصرية لها أصول من العامية السودانية بحكم جيرة مصر والسودان التاريخية موقعا وشعبا وتاريخا وثقافة عربية إسلامية
منها عبارة (ده بالميت ثمنه يجيب ….)
ونقول عند الضيق (ده طلع ميتين أهالينا !)
الغريب أننا تستعمل العبارتين دون معرفة الأصل .. تعالوا نتعرف من أين جاءت العبارتان :
تزامنًا مع ثورة عرابي في مصر ١٨٨١ م
قامت في السودان الثورة المهدية
وتعد حداً فاصلا في تاريخ السودان حيث تغيرت كثير من الأمور والعادات على إثرها .
ومن ضمن العادات المتبعة قبل الثورة تخليد ذكرى كبير العائلة بأن يتم دفنه داخل المنزل !
وبالتالي لا يجوز بيع المنزل احتراما للجد الأكبر ..
ماذا يفعل أحدهم إذا وقع في ضائقة وأراد بيع البيت ؟
لقد وقع في حيص بيص فليس أمامه إلا خياران :
إما أن يقوم باستخراج الميت ورفع رفاته ونقله في صندوق واستدعاء شيوخ لعمل طقوس معينة تستلزم أدوات معينة وظروفا خاصة وشراء مقبرة خاصة به خارج المنزل ، وهي عملية مكلفة جدا ، ولكن العائد كبير لأنه لو أخرج جثة المتوفى الذي ترفرف روحه حول المكان فيمكنه ساعتها عَرْض البيت بسعر مجز جداً.
أما الحالة الأخرى وأنت مفلس ومدين لكل من هب ودب ، فعليك أن تعرض البيت للبيع (بالميت) !
و بالطبع سيكون سعره أقل بكثير….
ثم اختفت العادة
وانقشعت الغبارة ولكن ظلت العبارة !
حيث بقيت عبارة :
(بالميت) تعبر عن (الحد الأدني) والسعر البخس ثمنا لبضاعة ما .. فنقول مثلاً : هذه السيارة بالميت تعملها خمسين ألفا وهذه الشقة بالميت تعملها مليون جنيه !
بالطبع هذا في السودان وانتقل منه إلى جارتها الغالية مصر (اللي بالميت لما تلاقي حد فيها يعرف الكلام ده ! )
وبما أن الثورة المهدية اصطبغت بالصبغة الدينية باتخاذها شعار المهدي المنتظر فقد ألغوا كثيراً من البدع التي لا علاقة لها بالدين، فقرر الخليفة إلغاء عادة دفن الموتي داخل المنازل، لأنها ليس لها أساس من الشرع وتخالف تعاليم الدين الإسلامي .
وبدأ بمحافظة أم درمان ..
واتخذ قراره الخطير و قرر أن :
(يطلع ميتين أم درمان)
و يدفنهم في مقابر خاصة بالمسلمين !
ولكن العقبة في بعض مشايخ الصوفية الذين دفنوا في بيوتهم وإخراجهم سوف يقابل بمعارضة وصدامات عنيفة مع الأهالي الذين يعتقدون في كرامات الأولياء ويقدسون مقاماتهم !
ففكروا في العكس ..
بدلا من أن يكون الشيخ مدفونا في البيت أصبح البيت نفسه مقبره ومقاماً للشيخ الصوفي ! ولا يحتاج أن
(يطلع ميتينهم)
ثم انتقلت من أم درمان إلى أن (طلعوا ميتين) السودان كله.
رغم استنكار الكثير ممن ظل محافظا على العرف الموروث والعادات السودانية، خاصة تلك العادة التي تثير لديهم الشجون والذكريات، وكان البعض شديد التعصب لها.. فكيف يأتي الحاكم و(يطلع ميتين أهاليهم ! ) ؟
وظلت العبارة تتناقلها الأجيال حتى يومنا هذا في البلدين الشقيقين للتعبير عن سلوك غير مقبول ويؤدي الى الحزن والمعاناة، وعدم مراعاة طروف الناس وإجبارهم على ما يكرهون .
ولا ندري موقف السودان مع مصر بخصوص سد النهضة الذي (بالميت) سيجوّع الشعب؟
أم أن السودان سوف
(تطلع ميتين أهالينا)
وتتعاون مع أثيوبيا وتزيد الطين بلة ؟
في الحقيقة إن انقسام السودان وفصل جنوبه عن شماله كان بمنزلة إسفين وضع عمداً يحول دون ملاصقة السودان لأثيوبيا ما خلق كيانا تبرأ من العروبة والإسلام لا علاقة له بِنَا ولا انتماء .
هذا الانقسام أمدّه بيد العون في المقام الأول الكيانُ الصهيوني الذي من مصلحته ألا تستطيع السودان مواجهة إثيوبيا ولا أن تتعاون مع مصر في ضد خطر السد .
فالسد يحتاج إلى صد!
فأصبح جنوب السودان امتدادا استراتيجيا لإثيوبيا ، بدلا من أن يكون عمقا استراتيجيا لمصر والسودان !
هل أدركت جامعة الدول العربية الآن كارثة انقسام السودان؟
وهل أدرك السودانيون والمصريون الآن تلك الخدعة الكبرى ؟
هناك روايات لا أعلم مدى صدقها أن إثيوبيا كانت كلما حاولت بناء سد على النيل تنطلق الطائرات المصرية لتقيم ضيفا على جنوب السودان لضرب السد قبل اكتماله ، ثم تعود آمنة إلى قواعدها بمصر !
هناك من ينكر تلك الحادثة، ولكن الفكرة نفسها هي جذر الموضوع ، فكيف لنا أن نواجه إثيوبيا الضعيفة بإمكاناتها، القوية بصهيونيتها ورعايا إسرائيل من يهود الفلاشا بداخلها؟
وبالطبع إذا ذُكرت إسرائيل فقد ذُكرت أمريكا والشيء بالشيء يذكر !