لغز قطار نابولي المفقود في مارس 1944 أضحت الحرب العالمية الثانية في عامها الخامس، لكن في إيطاليا كان كل شيء قد انتهى، فقد استسلمت روما بعد غزو الحلفاء لجنوبها، وهو أمر جعل إيطاليا كدولة خارج معادلة القوى المتصارعة، لكن معادلة الفقر والدمار والعوز كانت الشيء الباقي المستمر لسنوات طوال بعد ذلك
قطار إيطالي دخل أحد الأنفاق الجبلية، وانتظر الجميع خروجه، لكنه فُقِد بمن عليه إلى الأبد، والسبب هو قاتل صامت لم يلاحظه أحد، قاتل تنقل بين العربات واحدة وراء أخرى ليقتل أكثر من 500 شخص من الركاب في غضون نصف ساعة دون أية مقاومة تذكر.
عانى الإيطاليون نقصاً حاداً في السلع الغذائية، ولجأ الناس في مدن كبيرة مثل نابولي إلى الذهاب نحو الريف من أجل جلب غذائهم وإنقاذ أنفسهم وأسرهم من الجوع، لكن لم يكن ثمة وسيلة للذهاب إلى هناك سوى قطارات الشحن والبضائع، وهي القطارات الوحيدة المسموح لها بالسير هنا.
تعتمد المحركات البخارية على حرق الفحم من أجل إنتاج الطاقة، ومع الحرب والاستسلام لم تكن إيطاليا حينذاك في حال جيدة، وقد انعكس هذا على مستوى الفحم المستخدم، والذي كان ذو جودة منخفضة جدا، أدت إلى إنتاج كمية كبيرة من أول أكسيد الكربون السام عديم الرائحة من المحركات
مع وصول القطار لمحطة إيبولي، أجبر أفراد الأمن وموظفو السكة الحديد الركاب على النزول، لكن في المحطات التالية استقل مزيد من المسافرين القطار حتى فاق عددهم نحو 600 شخص، مما جعل القطار مثقلًا بشكل كبير، وتسبب في وقوفه في محطة بالفانو ريشيجليانو من أجل الصيانة
أتم القطار الجزء الأول من الرحلة بشكل جيد ومنتظم، حيث تم سحب عرباته بواسطة محرك كهربائي من نوع E.626، ومع دخول القطار سكة حديد باتيباجليا ميتابونتو غير المكهربة في تمام السابعة مساءً تم تغيير المحرك الكهربائي بمحركين بخاريين.
تم إصلاح القطار وانطلق حتى انتهى إلى جبل عتيد لا طريق لعبوره إلا عبر نفق قديم يخترقه منذ أمد. إنه نفق “أرمي” المنحدر سيء التهوية والذي يبلغ طوله 2 كم، يسير القطار برتابته المعتادة، والهواء من حوله ساكن والقضبان مبللة بفعل الرطوبة والنفق في انتظار دخوله
نظرًا لطول الرحلة وقسوتها وانتصاف الليل، كان جل الركاب يغطون في نوم عميق، ومع بداية دخول المحركات الجارة للقطار إلى النفق بدأت العجلات في الانزلاق على القضبان المبللة، الأمر الذي أفقد القطار سرعته تدريجيا وأجبره على التعطل بكامل عرباته داخل النفق سيء التهوية
كان الهواء ممتلئًا بالفعل بالدخان منذ أن مر آخر قطار هنا ، وكان على السائقين أن يحلا هذا الموقف، وأن يتقدما بقطارهم لتجاوز هذا النفق، تسبب محاولات السائقين لإعادة تشغيل القطار في إنتاج المحركات لمزيد من العوادم البخارية المليئة بغاز أول أكسيد الكربون عديم الرائحة وشديد السمية
لغز قطار نابولي المفقود
مباشرة بدأ الغاز يتسرب إلى عربة القيادة، ومع زيادته باطراد اختنق طاقم السائقين والعاملين، وماتوا على الفور، ثم استمر هذا الغاز الكثيف عديم الرائحة شديد السمية في التسرب إلى بقية العربات، ليحصد أرواح الركاب النائمين في صمت مهيب، مفضيًا أرواحهم شخصًا وراء آخر
مع تأخر وصول القطار إلى المحطة التالية، تحرك أحد المحركات إلى المنطقة من أجل تقصي الأمر، ومع وصوله إلى بداية النفق وجد سائق المحرك أعمدة الدخان وقد حاصرت القطار داخل النفق، حاول السائق جر القطار للخارج، لكنه حوصر هو الآخر بالغاز المنبعث وفقد وعيه قبل أن يفعل ذلك.
فاق عدد ضحايا هذا الغاز السام أكثر من 500 شخص، وبسبب نقص الموارد والخدمات في زمن الحرب، دفنت الجثث بدون أية مراسم دينية في مقابر جماعية في مقبرة بالفانو القريبة، وعزت السلطات ذلك الحادث إلى قوة قهرية، وأغلق ملف الحادثة دون تحقيق منصف.
أصدرت وزارة الخزانة لعائلات جميع الضحايا نفس التعويض الذي تم تقديمه لضحايا الحرب حينذاك، كما تم تخفيض حمولة القطارات لتكون بحد أقصى 350 طنا، كما تم إنشاء نقطة حراسة دائمة عند مدخل النفق، مهمتها التأكد من زوال الغازات والعوادم من النفق قبل مرور القطارات
ظل مركز الحراسة في مكانه حتى عام 1959، قبل أن يتم حظر جميع القطارات البخارية من الخط إلى الأبد، فيما تم إلغاء لوائح الوزن المطبقة بعد الحادثة في عام 1996، وذلك عندما تم تزويد الخط كاملا بالكهرباء، لتبقى هذه الحادثة في وجدان الإيطاليين والعالم كأسوا وأغرب الحوادث على الإطلاق
لغز قطار نابولي المفقود