الدكتور عادل عامر
إن علاقة الدول العربية بالمنظمات العالمية والوكالات المتخصصة هي جزء من علاقات دول الجنوب أو الدول الأقل في معدلات النمو والتي ورثت بنية تحتية متهالكة ونظاماً سياسياً متخلفاً فأصبحت علاقتها بالمنظمات الدولية مرتبطة إلى حد كبير ببرامج التنمية ومواجهة المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها، وتتميز الدول العربية أيضاً بأنها تتجاوز الموروث الثقافي إلى الموروث السياسي بكل ما ينطوي عليه من قهر واستبداد واختناق للحريات، لذلك كان طبيعياً أن تعاني الدول العربية في علاقاتها بالمنظمات الدولية من ذلك الدور المتناقض،
فهي بحاجة إلى دعم سياسي لا تتمكن منه غالباً بحكم تراجعها الاقتصادي، ولو نظرنا إلى الدول القديمة العلاقة بالمنظمات الدولية مثل مصر والعراق وسورية والسعودية وبعض دول المغرب العربي فإننا سوف نجد أن مشاركتها في العمل الدولي كانت محكومة دائماً بظروفها التاريخية وأوضاعها الداخلية.
إن علاقة العرب بالمنظمات الدولية خصوصاً الأمم المتحدة هي علاقة تتميز صعوداً وهبوطاً بقدر كبير من التذبذب ولكنها في مجملها لم تكن علاقات تصب في مصلحة العرب الذين دفعوا الثمن غالياً في كافة المراحل. إن تاريخ علاقة العرب بالأمم المتحدة تاريخ لا يعكس نجاحاً بقدر ما يعكس درجة عالية من التردد والشد والجذب، وفي النهاية فإن العرب هم الذين يدفعون الثمن قبل غيرهم!
إن تاريخ القضية الفلسطينية في المنظمة الدولية يستحق الدراسة والتأمل، فقد صدر قرار التقسيم عن مجلس الأمن وكان إعلان قيام الدولة العبرية من الأمم المتحدة وباعتراف دولي سريع شاركت فيه موسكو منذ اللحظات الأولى، وهي أيضاً الأمم المتحدة التي كادت أن تحيل القضية الفلسطينية برمتها إلى قضية لاجئين حيث استطاعت إسرائيل بدعم ملحوظ من الولايات المتحدة الأميركية وبعض الحلفاء الغربيين أن تضرب الشرعية الدولية في كل مناسبة وأن تعطي درجة من الغموض المطاط للقرارات المهمة في تاريخ القضية، ويكفي أن نتذكر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الصادر عام 1967
والذي اتسم بالغموض ولم تتوقف عنده إسرائيل بل مضت دائماً خارج إطار الشرعية الدولية تحاول أن تستحوذ على كل شيء فهي تريد الأرض والمياه والسلام في الوقت ذاته! ووجدت إسرائيل غطاءً أميركياً عاجلاً يحميها من كل صور الإدانة أو حتى الانتقاد لخروجها عن الشرعية. إن تاريخ العلاقة بين القضية الفلسطينية والأمم المتحدة تاريخ مؤلم فيه انحياز واضح وتواطؤ دائم وتوظيف للقرار الدولي في خدمة الاحتلال وتجنب إدانته.
إن جامعة الدول العربية التي نشأت قبل الأمم المتحدة متأثرة بميثاق عصبة الأمم قد أعطت دائماً اهتماماً لقرارات المنظمة الدولية الأولى، وحاول كثير من الأمناء العامين فتح حوار بين الجامعة العربية والأمم المتحدة، وأظن أن عمرو موسى الأمين العام الأسبق للجامعة حاول أن يفعل شيئاً من ذلك بحكم خبرته السابقة داخل كواليس المنظمة الدولية.
ولجامعة الدول العربية مكتب دائم في نيويورك للتعامل اليومي والتمثيل الديبلوماسي في أروقة المنظمة ولكن التنسيق بين المنظمتين ظل محدوداً وأصبح المكتب العربي مجرد مكتب إعلامي لا يتجاوز ذلك كثيراً، وعلى رغم أن جامعة الدولة العربية تستقبل في القاهرة الزوار والموفدين من الشخصيات الكبرى في العالم إلا أنها لم تتمكن من فرض وجودها الفاعل داخل الأمم المتحدة.
إن محنة التنظيم الدولي المعاصر تنعكس على كافة المنظمات الدولية عالمية كانت أو إقليمية، إذ أن القرار الدولي يفتقد إلى قوة الإلزام التي تدعمه وتحميه فضلاً عن أن منطق القوة العسكرية والاقتصادية هو الذي يسود في عالم اليوم، لذلك فإن جميع التجارب الناجحة في التنظيم الدولي المعاصر الذي بدأت إرهاصاته بالاتفاقيات الأوروبية القديمة مروراً بإنشاء الاتحاد البرلماني الدولي عام 1889 وصولاً إلى قيام عصبة الأمم
وحتى التنظيمات الإقليمية التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، لم تستطع كل هذه التجارب الخروج بالتنظيم الدولي من محنته الراهنة حيث تفضل الدول المختلفة التعامل من خلال العلاقات الثنائية الفوقية بدلاً من العلاقات المتعددة الأطراف تحت مظلة دولية، ولا نكاد نعرف حالياً تجارب ناجحة لتنظيم دولي معاصر باستثناء الاتحاد الأوروبي وربما الاتحاد الأفريقي أيضاً في بعض أدواره الحديثة. إننا أمام محنة حقيقية للتنظيم الدولي المعاصر الذي لا تزال قاعدته القانونية قاصرة عن الوفاء باحتياجات التطبيق الملزم للقرارات الدولية ومواجهة الخروج عن الشرعية عند اللزوم.
صت “م8” من ميثاق جامعة الدول العربية الذي تحرر في 22 مارس 1945، في مدينة القاهرة، على “أن تحترم كل الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها”.
وبالاطلاع على مواد الميثاق نجد أنه لم يتعرض لمبدأ عدم التدخل الدولي بصورة واضحة، كما جاء في ميثاق الأمم المتحدة في م2/7 منه، أو ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في “م3” منه، أو ميثاق منظمة الدول الأمريكية “م15” منه والتي تعد أكثرها تقدماً، لأنها نصت على مشروعية التدخل المباشر أو غير المباشر، في شئون الدول الأخرى.
ولما كان ميثاق الجامعة العربية لم يتصد لمبدأ عدم التدخل الدولي، إلا بصورة غير مباشرة من خلال “م8” لأنها أكدت على عدم جواز التدخل لتغيير نظام الحكم في الدول العربية، وهي في الحقيقة إحدى صور التدخل، كما أكد الميثاق على أنه لا يجوز لأي دولة عربية أن تلجأ إلى القوة لفض المنازعات التي تقع بينها وبين غيرها من الدول العربية، كما الزم كل دولة عربية أن تحترم نظام الحكم القائم في غيرها، وأن تنظر إليه على أنه حق من حقوق تلك الدول، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.
وعلى الرغم من ذلك، طالما ارتفعت الشكوى من جانب دولة عربية تتدخل في شؤونها دولة عربية أخرى ـ بل إن هناك من جاهر، باستنكار مبدأ عدم التدخل بالنسبة إلى العالم العربي، على اعتبار أن القومية العربية تقتضي التدخل المستمر بين الدول العربية بعضها وبعض متخطية الحدود السياسية، والحكومات المحلية، تحقيقاً للإرادة الشعبية العربية.
ونظرة واضعي الميثاق لمبدأ عدم التدخل من خلال عدم جواز تغيير أنظمة الحكم في الدول الأخرى فقط دون غيرها من الأمور التي قد تمس كيان الدولة، هو أمر يمثل في الحقيقة قصوراً واضحاً، يضع الميثاق والمنظمة ككل في مرتبة متدنية بالنسبة للتنظيم الدولي، خاصة في عصرنا الحديث الذي شهد تطورات جد مهمة في إطار إنشاء الكيانات الإقليمية الفاعلة والقوية على الساحة الدولية. وهذا الوضع الذي رسمه الميثاق للمنظمة جعلها عاجزة عن مواجهة مشاكلها، خاصة ما يتعلق بالنزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي.
لقد انعكست التطورات الاجتماعية الدولية على تطور مفهوم لسيادة، فالانتقال من العزلة إلى حالة التضامن، الذي أخذ يظهر في شكل علاقات تعاون بين الدول لمواجهة الحاجات والمصالح الوطنية المتزايدة، أدى إلى قيام نظام الاعتماد المتبادل الذي أخذت فيه كل دولة على نفسها المساهمة في تحقيق مصالح المجموعة الدولية،
وهو ما لا يتم إلا بالاعتراف بحد أدنى من الضوابط الضرورية لاستمرار سلامة العلاقات الدولية، وهذه المعطيات الجديدة للنظام الدولي عملت على تحجيم مفهوم السيادة الوطنية، بحيث يتم التخلي عن بعض الحقوق السيادية وفقاً لما يتطلبه الصالح العام الدولي، وهو ما يعني إفراغ السيادة من مضمونها بامتيازات السلطة المطلقة، وإعطائها مضموناً جديداً قائماً على نشاط وظيفي لصالح الهيئة الدولية، وقد كان هذا التخلي عن بعض حقوق السيادة الوطنية بحكم الضرورة وليس اختياراً بإرادة الدولة، نتيجة للتطور المستمر للجماعة الدولية