متابعة:لسعد الحرزي
المبدعة صفية قم بن عبد الجليل أديبة ناقدة قدمت مداخلة حول الكتابة السردية لقلمين متميزين هما صورة من صور السرد المتألق في الساحل.وقد وعدنا أصدقاء النادي ومتابعي هذه الصفحة أن نقدم مزيدا من الأضواء حول لقاءات النادي فقد ارتأينا أن نقدم هذه المداخلة لكافة الأصدقاء خدمة لأدب
تقديم كتابي:
ـ صهيل الصمت : إلهام مسيوغة.
ـ دمية الماء: وفاء فتح الله
الإطار العام:
أين يتنزّل هذان الكتابان؟ هل ينتميان إلى مدرسة أدبيّة مخصوصة وهل توجد مدرسة أدبيّة بالساحل كما ورد في نصّ الدّعوة؟
لنتّفق أوّلا أنّ للمدرسة الأدبيّة أسبابا لنشأتها ومؤسّسين لها تجمعهم رؤى مشتركة وبالتّالي لها خصائص مميّزة. نذكر على سبيل المثال: المدرسة الكلاسيكيّة ومدرسة الإحياء والبعث والمدرسة الرومنسيّة والمدرسة الرمزيّة ومدرسة الديوان ومدرسة أبولو ومدرسة المهجر… ومن التسميات ندرك الخصائص التي تميّز مدرسة عن أخرى كما ندرك أنّ المدرسة اللّاحقة كثيرا ما تأسّست على أنقاض سابقتها أو على غير منوال سابقتها.
وعليه هل يمكننا اليوم أن نتحدّث عن مدارس أدبيّة عامة وعن مدرسة السّاحل التونسيّ للسرد؟
أعتقد من منظوري وممّا حدث من انفتاح العالم على مصراعيه ممّا جعله ” قرية صغيرة ” خاصة بهذه الثورة التكنولوجيّة وانتشار الانترنت… أنّ الحديث عن الخصوصيّات الجهويّة يعدّ من باب العبث. وبالإضافة إلى ذلك: لنفترض أنّ هذه المدرسة السرديّة موجودة هل بالإمكان الحديث عنها في لقاء وجيز كلقائنا هذا؟ بل كيف يمكنني أن أتحدّث عن مدرسة سرديّة دون أن أقوم بجمع المدوّنة السرديّة كلّها وقراءتها ونقدها ومقارنتها بغيرها؟ ! أعتقد أنّ هذا العمل حريّ بأن يكون أطروحة دكتورا أو عملا جماعيّا على مدى سنوات. لهذه الأسباب وغيرها أفضّل ألّا أجازف بالخوض في مسألة المدارس الأدبيّة الآن .بيْد أنّه بالإمكان الجزم بأنّ المنجزات السرديّة بجهة الساحل التونسي كما بجهات أخرى من البلاد مشرّفة. أذكر على سبيل المثال لا الحصرـ حتّى لا أتورّط ـ سرديات محي الدين بن خليفة،
الحبيب المرموش وبوراوي عجينة وآمنة الرميلي ونبيهة العيسي ومصطفى الكيلاني وفوزية حمّاد وهند الزيادي رضية قعلول، منيرة الصالحي محمد البدوي وراضية الشهايبي… وفي هذا الإطار يتنزّل كتابا الضيفتين إلهام بو صفارة مسيوغة ووفاء فتح الله، إذ هما إضافة للمدوّنة السرديّة العربيّة عامة والتونسيّة خاصة.
ــ صهيل الصمت لإلهام مسيوغة:
ـ من هي إلهام مسيوغة؟
أصيلة مدينة المهديّة وتقيم بمدينة مساكن. متحصّلة على الأستاذيّة في اللغة والآداب العربيّة من كليّة الآداب بسوسة سنة 1996. أستاذة أولى مميّزة بالمعهد النموذجي بسوسة. عضو باتحاد الكتّاب التونسيين. مشارِكة فاعلة في عديد التظاهرات الثقافيّة. عضو نشيط بصالون الزوراء الأدبي. مؤسّسة نادي الأباريق الأدبيّ بالمعهد النموذجي بسوسة (وهو ناد يعرّف بالأدب التونسيّ شعرا وسردا ويمتّن الأواصر بين التلاميذ والأدباء ) أصدرت 3روايات: ـ صهيل الصمت 2006 ـ الياسمين الأبخر 2009 وأعادت نشرهما 2017 ـ النّسيجة 2017
*العتبة الأولى: العنوان: صهيل الصمت: تركيب إضافيّ، إضافة الصوت إلى نقيضه: الصمت وأيّ صوت ! صوت الفرس مع ما في كلمتي صمت وصوت من جناس وطباق يجعل القارئ ينتبه إلى هذه المفارقة التي تختزل تكثيفا وبلاغة إيجاز، وإنّ من الإيجاز لسحرا؛ بل تبعث فيه السؤال المحيّر: كيف للصمت أن يصهل فيعلن عمّا بمكنونه؟
وهذا العنوان المبنيّ على المفارقة إنّما يُجمل موضوع الرّواية والمسائل التي تناولتها: وهو موضوع فكريّ فلسفيّ وجوديّ إذ طرحت الكاتبة على المحكّ عدّة مسائل منها: مسألة الجسد وعلاقته بالرّوح ونظرة المجتمع إليه عموما وجسد المرأة خصوصا. وفي هذه الرواية كان الطّرح جريئا عميقا بعيدا عن الابتذال السوقيّ إذ سعت الكاتبة في الرواية ( صفاء ) إلى تصحيح مسار الروح والجسد وقد مزّقت الحيرة فكرها المكدود بين سطوة العقل وجموح الجسد اللّذين يختزلهما العنوان: (العقل يعمل دوما على إخراس الجسد الصارخ رغبة أو شهوة أو رفضا لتابوهات المجتمع العديدة حتّى مرضت النفس ولازمت صاحبتها المصحّة طيلة ستّة أشهر… )
وأثناء هذه الفترة سعت صفاء وهي المرأة مدار الحكي في الرواية إلى التمرّد على تابوهات المجتمع، وهي المفتونة باللذّة الجسديّة حتّى حوّلتها صولاتُ الجسد المحموم وجولاته إلى ” عاهر” في نظر المحيطين بها وإلى ” كاتبة جسد ” من منظورها الذّاتيّ. لذلك بنت الكاتبة إلهام مسيوغة الرواية روايتها على ثنائيات متعدّدة: عقل \ جسد ـ رجل \ امرأة ـ فرد \ مجتمع ـ زيف \ حقيقة ـ واقع \ حلم ـ صحو \ خدرـ حبّ \ كره ـ لذّة \ ألم… وبهذا الطرح نجدها قد تطرّقت إلى عدّة مستويات نفسيّة وفكريّة ـ حضاريّة وعاطفيّة وجنسيّة واجتماعيّة وسياسيّة…
وفي الجملة فمدار الحكي اللذّة العارمة، لذّة الجسد حدّ الشّبق، تقول صفاء: ” جسدي الرّاغب يكتبُ ويصنع لرغباته تاريخا…”
فماذا يكتب هذا الجسد ولمن يكتب ولماذا يكتب، بل ما الكتابة؟
مسألة الكتابة من المسائل التي تؤرّق إلهام مسيوغة والسؤال مطروح في رواياتها الثلاث ولها فيها رأي مخصوص لعلّها تبيّنه لكم لاحقا.
أمّا في هذه الرواية فالكتابة هي الصّهيل ، صهيل الجسد الصامت خشية ورهبة، هي ذاك الصوت الأصيل المحبّب إلى النفس. ورد في تاج العروس ما يلي:
” الصَّهَلُ مُحَرَّكةً : حِدَّةُ الصَّوْتِ مَعَ بَحَحٍ وليسَ بالشَّدِيدِ ولكنَّهُ حَسَنٌ قالَهُ أبو عُبَيْدٍ وبهِ فَسَّرَ قَوْلَ أُمِّ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنها في صِفَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم : في صَوْتِهِ صَهَلٌ كالصّهْلِ بالفَتْحِ والصَّهْلُ بالفَتْحِ مِثْلُ الصَّحَل وهو البُحَّةُ في الصَّوْتِ
ورَجُلٌ ذُو صَاهِلٍ : شَدِيدُ الصِّيالِ والْهِياجِ كَما في المُحْكَم قالَ اللَّيْثُ : والصَّاهِلُ الْبَعِيرُ الذي يَخْبِطُ بِيَدِهِ ورِجْلِهِ زادَ النَّضْرُ : ويَعَضُّ ولا يَرْغُ, بِوَاحِدَةٍ مِنْ عِزَّةِ نَفْسِهِ قالَ اللَّيْثُ : ولِجَوْفِهِ دَوِيٌّ مِنْ عِزَّةِ نَفْسِهِ . يُقالُ : جَمَلٌ صَاهِلٌ وذو صاهِلٍ ونَاقَةٌ ذَاتُ صَاهِلٍ وبها صَاهِلٌ”
فالكتابة إذن هي صوت المحتجّ وقد أثقله الصمتُ. هي صوت الرفض والتمرّد عموما. وهي صوت المرأة الواعية برغبات الجسد والرّوح في التحرّر والانعتاق من أغلال المجتمع الذكوري المتواري وراء الأخلاق الحميدة والتابوهات المحرّمة: لذلك أبرزت الروائيّة إلهام مسيوغة كيف تتقمّص المرأة المقيمة بالمصحّة وتعيش حياة المرأة الثانية صفاء ( واختيار الاسم ليس مجانيا) مدار القصّ، بمجرّد كتابتها وكيف يلتقي الحرمان بالانعتاق والألمُ باللذّة، لذّةِ الإبداع التي توازيها لذّة الجسد والفكر. الكتابة هنا تنفيس وتعويض عن حرمان من منطلق الفلسفة وعلم النفس. ولا غرابة في ذلك فالشخصيّة الرّئيسيّة الّتي بيدها خيوط اللعبة السرديّة وهي تلك المريضة بالمصحة لمدة ستة أشهر وهي مدار الحكي والمخبَر عنها إنّما هي طالبة في قسم الفلسفة فأستاذة تعليم ثانوي بمعهد سيدي بو علي من ولاية سوسة وتقطن بسوسة. والمكان هنا مكوّن روائيّ أساسيّ أي مكان تخييليّ وليس واقعيّا وإن سمّته ووصفته (فلا تبحثوا عنها وعنه !) إذ هو المكان اللفظيّ المتحوّل أي المكان الذي صنعته اللّغة، انصياعا لأغراض التخييل الرّوائيّ؛ فهو ليس مجرّد ديكور بل هو الفضاء الّذي يضمّ شبكة علاقات شديدة التعقيد من وجهة نظر شخصيات المكان لذلك يُعتَبر مكوّنا روائيّا أساسيّا.
ــ والأمكنة في الرواية عديدة: المصحّة والكليّة حيث درست صفاء في قسم الفلسفة وعرفت زميلها عمر. ـ المبيت الجامعيّ وشارع الكوليزي القريب من مبيتها. ـ منزل عمر القريب أيضا من الكوليزي والمبيت ـ نزل النجمة حيث التقته في أمسية شعريّة فكان التقارب ونوع من الإعجاب ـ المطعم الجامعيّ حيث تجدّد اللقاء وبدأت العلاقة تتوطّد ـ مدينة سوسة وبها استأجرت بيتا مطلّا على الكورنيش ـ محطة التاكسي وسيارات الأجرة التي تقلّها إلى مركز عملها.ـ المعهد الثانوي بسيدي بو علي وبه القسم وقاعة الأساتذة والمشرب.ـ تاج مرحبا حيث سعت إلى لقاء عمر في محلّه للأحذية ـ بيت عمر الذي يقطنه مع أسرة أخيه شريكه في المحلّ ـ نزل عقبة حيث مارست” حريتها ” دون قيد أو شرط مع سليم سائق التاكسي ومراد طالب الرسم ـ شقة مراد طالب الرسم وكلّ الشوارع التي تؤدي إليها.
كلّ هذه الأماكن تراوح بين الانغلاق والعتمة والانفتاح والنور: الكاتبة في الرواية ملازمة فراشها بغرفة المصحّة ولا تغادرها وحتّى الكتابة تمّت في أوقات تغلب عليها الظلمة. تقابلها صفاء التي جعلتها الكاتبة تتنقّل بكلّ حريّة ويسر بين الفضاءات المذكورة آنفا، خدمة لسير الأحداث وتناميها وثأرا من الكبت الذي تعانيه الكاتبة سجينة المرض والمكان وكلّ القيود النفسيّة والاجتماعية التي تكبّلها.
إذن كلّ الأماكن موظّفة بإتقان وإن غاب الوصف الدقيق الذي قد تقتضيه الكتابة الروائية. فإنّ ذلك يعود حسب رأيي إلى نوع الرواية إذ هي تُعنى بالأفكار والتحليل النفسيّ وبذاك الصراع الوجودي الذي أشرنا إليه سابقا.
ــ أمّا الزمن: فنجد عدّة أزمنة،ذات طبائع مختلفة : زمن الكتابة وهو الزمن الذي تدور فيه الأحداث المتخيّلة
ـ زمن القراءة.
الزمن الداخلي للنصّ
ـ الزمن الذي تستغرقه الأحداث وقد يكون زمنا استطراديّا ، الآن وأمس وغدا … وهناك زمن استرجاعيّ وهناك الزمن المتقطع الذي بتقدّم ثمّ يتراجع وهناك زمن خاضع للشعور حينما تشتغل الذاكرة من دون انتظام استطراديّ.
هذه الأزمنة موظّفة توظيفا جيّدا، نجد:
ـ تحديد زمن الإقامة بالمصحّة: ستّة أشهر، والزمن الذي مرّ على فراق صفاء وعمر ثلاث سنوات، وقد ذُكرا عرضا.
ـ زمن الكتابة الذي يمتدّ على مدى سبعة مواقيت: في الغسق، بعد هزيع من الليل، في شطر الليل، في الغبش، في السحر الأعلى، في الفجر، في الغديّة، وهذه الأزمنة السبعة أتت بعدد فصول الرّواية وتؤرّخ لولادة النصّ الرّوائيّ ولادة بطيئة متمهّلة مدروسة، إذ هي تتوغّل في الظلمة مجاراة للأحداث والأفكار لتتدرّج شيئا فشيئا نحو الضوء يخاتل الظلمة فإلى النّور. نلاحظ أنّ الزّمن قد ورد متعاقبا متسلسلا استطراديّا دون أن نعلم إن كان من نفس اليوم أو هو على امتداد الأشهر الستّة التي قضّتها الكاتبة بالمصحّة. بيْد أنّنا نجد زمنا استرجاعيّا يتخلّل هذه الأزمنة، إذ بنت الكاتبة مسيرة صفاء على التذكّر وكذلك مسيرة عمر، وهو زمن خاضع للقادح وللشّعور إذ تشتغل الذّاكرة دون انتظام استطراديّ. ونجد أيضا نوعا آخر من الزمن وهو الزمن المتقطّع الّذي يتقدّم ثمّ يتراجع: بعد بلوغ صفاء ذروة التجربة الحسيّة مع مراد طالب الرسم في شقّته نجدها تعود إلى طفولتها فتتذكّر أباها الذي هاجر إلى النمسا وتحاول أن ترسم له صورة. وبتأمّلها صورة أمّ مراد تتذكّر أنّ أباها تزوّج مثل هذه المرأة الأجنبيّة وأهملها مع أمّها التي تزوّجت بدورها رجلا آخر… ثمّ تعود الأحداث إلى مجراها التّراتبيّ وهكذا دواليك.
وهذا التنوّع في الأزمنة حريّ بأن يجعل مقروئيّة الرّواية أفضل وأن ينأى بالقارئ عن الرتابة والملل بل ويجعلها مشوّقة وإن كان ذلك يتطلّب من القارئ تركيزا إضافيّا وانتباها حتّى لا تختلط عليه الأحداث والأشخاص…
ــ اللّغة: صاغت الكاتبة روايتها في لغة شعريّة متينة تعتمد الصور والتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية… وتمتح من مجالات معرفيّة عديدة: من الأدب شعرا ونثرا، قديمه وحديثه ومن الفلسفة( ديكارت، سبينوزا…) ومن الدين والفقه والعادات والتقاليد والمعتقدات الشعبيّة… ونجد في الرواية إحالات جليّة وأخرى ضمنيّة، فكان تصادي النّصوص وتعالقها أمرا مرضيّا بل مشكورا يغني الرّواية ويشي بثقافة الكاتبة المتنوّعة الثريّة العميقة… بيْد أنّ هناك بعض الهنات اللغويّة التي يمكن تلافيها بالانتباه والمراجعة الدّقيقة.
ــ تصنيف الرّواية:
هي رواية فكريّة إذ تطرح موضوعا حضاريّا مسكوتا عنه ومعتبرا من التابوهات : موضوع الجسد والرّغبات الجنسيّة في صراعها مع العقل والقانون والمعتقدات الاجتماعيّة .
وهي أيضا رواية نفسيّة قُدّمت فيها أفكار الشخصيات ومشاعرها ودوافعها وأحاسيسها. وقد اهتمّت بها الكاتبة بدرجات تكاد تكون متساوية وراوحت بينها باقتدار بيّن؛ فهذه الأحاسيس الدّاخليّة هي التي تؤثّر في الأحداث الخارجيّة وتحرّكها.
وهي رواية السّلوك بامتياز إذ هي ترسم المجتمع وتعيد خلقه من خلال سلوك الشخصيات وصراعها وائتلافها واختلافها وتنافرها.
وهي رواية وجدانيّة باعتبارها تثير وجدان القارئ وتعاطفه مع هذه الشخصيّة أو تلك أونفوره منها.
ــ الخلاصة: الرواية جديرة بالقراءة والاهتمام والدّراسة، لطرافة موضوعها وجرأة الكاتبة على طرحه طرحا إبداعيّا ولمتانة أسلوبها وجمال لغتها وجيّد بنائها.
فهنيئا للمكتبة التونسيّة وللمكتبة العربيّة بهذا المصنّف السرديّ وهنيئا للأستاذة إلهام بو صفّارة مسيوغة بهذا الإنجاز الأدبيّ المتميّز.
دمية الماء: وفاء فتح الله:
من هي وفاء فتح الله؟
كاتبة تونسيّة أصيلة مدينة مساكن. تقيم بسوسة . متحصّلة على بكالوريا علوم ورياضيات. درست بشعبة الفيزياء والكيمياء بكلّية العلوم بتونس. شغوفة بالأدب والكتابة. لها مشاركات عديدة في التظاهرات الثقافيّة ونشرت نصوصها في عديد المجلات الإلكترونيّة. متحصّلة على الجائزة الأولى في الملتقى الوطني للقصّة القصيرة بمساكن، الدورة الثانية عشرة 2016 . عضو بصالون الزوراء الأدبيّ . عضو بجمعيّة أحبّاء دار الثقافة بمساكن. أصدرت مجموع نصوصها الأوّل : ” دمية الماء. “سنة2017 ولقي استحسان القرّاء والنقّاد. تستعدّ لنشر مجموعها الثاني قريبا.
الكتاب: دمية الماء:
هو مجموعة نصوص صدر عن الثقافيّة بالمنستير سنة 2017 في حجم متوسّط (118 صفحة.) واستهلّته الكاتبة بإهداء إلى: والديها وزوجها وأبنائها وأستاذتيها وإلى ” الّذين يبيعون أحلامهم للذّاكرة ويضيّعون الطريق.” وشفعت الإهداء بتصدير من كتاب دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران. يلي ذلك مقدّمة بعنوان: عرائس وفاء.” للأستاذة عائشة خضراوي شبيل.
من خصائص القصّ في كتاب ” دمية الماء ”
لوفاء فتح الله
على امتداد 25 نصّا حاولتُ أن أهتدي إلى تقنيات القصّ أو خصائصه في هذا المجموع؛ فإذا ببعضها مطّرد حتّى لكأنّه القاعدة التي لا حياد عنها وإذا ببعضها الآخر يظهر حينا ويختفي آخر:
ــ المطّرد البارز:
ـ اعتماد الكاتبة في جلّ نصوصها وعلى اختلاف مواضيعها على الاسترجاع والفلاش باك فإذا بها تنتقل بالقارئ من الآن إلى ماض سحيق أو قريب. وهذا الانتقال عادة ما يكون سلسا وذلك بتهيئة قادح يشعل الذّاكرة فتنبري تحدّث أخبارها، تلك الأخبار الّتي لئن طواها النسيان فإنّ الكاتبة تعمد إلى إحيائها فتتجلّى العلاقات السببيّة أو الافتراضيّة أو الوهميّة بين الحاضر والماضي أو بين ما آل إليه الأمر الآن والأحداث السّابقة، سواء تمّ الإخبار بذلك على لسان الراوي الذي كثيرا ما تماهى بالشخصية الرئيسيّة أو بلسان الشخصيّة الرئيسيّة أو الثانويّة، فيكون البوح. وهذا البوح قد يطول وقد يقصر وقد يمتدّ على مدى النصّ فكأنّ الحديث عن الآن ليس إلّا مقدّمة له، بل هو نتيجته المتولّدة عن السبب أو الأسباب التي تبوح بها الذاكرة في حالة صفاء أو كدر. وهذا التكسير للزمن يضفي على النصّ حركيّة وتشويقا ويجنّبه الرّتابة التي ترغّب القارئ عنه.
أذكر على سبيل المثال لا الحصر نصّ المهرّج، ص49 حيث تطغى الذكريات على الحاضر، فكأنّما الآن ليس إلّا مقدّمة للحديث عن الماضي أو لكأنّ الآن هو القادح الأساسيّ للتذكّر إمّا هربا من شراسة الحاضر أو بيانا أنّ ما يحدث الآن ليس إلّا نتيجة حتميّة لما كان.
وكذلك نصّ الرائحة الأخيرة ص 55 وخاصة ص ص63 و64 إذ نجد النصّ مناصفة تقريبا في عدد سطوره بين الحديث عن الآن وعن الماضي اللّذين يرتبطان ارتباطا وثيقا في نصوص وفاء التي كثيرا ما حاولت الغوص في النفس البشريّة، نفس شخوصها فتكشف المستور في لحظات بوح أو تجلّ أو ألم يوقظ الذاكرة فتنهال الذكريات بحلوها ومرّها… وأعتقد أنّها واعية تماما بهذه الهندسة التي عمدت إليها فقد تردّدت كلمة الذكرى أو ما يرادفها أو يدلّ عليها مرارا بل نجدها في نصّ جواز سفر تقول في الصفحة 86 على لسان المتكلّم: ” ها قد بلّلني المطر ورقّ الضوء فاشتعلت ذاكرتي ورمتني بلهيب لحن قديم يسكنني منذ الصّغر.”
وهذا الاسترجاع المطّرد في جلّ النصوص يفضي بنا إلى الحديث عن:
ـ المراوحة بين الحاضر والماضي والمستقبل:
هذه المراوحة مطّردة أيضا في جلّ النّصوص، من ذلك نصّ: رقصة آفلة، ص75 إذ نجد المرآة الصغيرة مقطوعة اليد صفيّة الوجه الّتي عثرت عليها المرأة بين أشيائها المبعثرة تحيلها إلى الماضي: ص76 وإلى الآتي ص 77 .
وكذلك الأمر في نصّ جواز سفر ص86 حيث ينتهي النصّ بعد الحديث عن الماضي والحاضر باستشراف المستقبل: “متى تصل؟ لأرتّب معك كلمات حبّ جديدة وقبل أن يأفل القمر سأزرع قمحا على الضفاف وأتدثّر بالنسيان…” ص86
ونجد هذه المراوحة بارزة أيضا في نصّ بطالة إذ نجد العاطل عن العمل بمقهى وما أن تمرّ به النادلة حتّى تذكّره بماضيه القريب، ص 79 ثمّ يعود إلى حاضره: “اعتدل في جلسته واستغرق في شاشة جوّاله يبحث في عروض الشغل، يقلّب العناوين” ثمّ من الحاضر نجد إشارة إلى المستقبل:” لا يزال ينتظر سرابا قد يستحيل ماء في يوم ما ” ثمّ يتماهى الحاضر مع الماضي وتختلط عليه الأمور، ص 80 فيصاب بنوبة سعال متقطّع عنيف فتسرع إليه النادلة…
أمّا في نصّ يوم صعب ص 17 فإنّنا نجد هذا التلاعب بالزمن على النحو التالي:
ـ الحاضر: شاب يائس يركض مذعورا في طريقه إلى عمود الكهرباء.
ـ استشراف الآتي القريب: عندما تلتحق به أخته زينة يقول: “المجنونة سيتبعها الجميع، أعرفهم… لن ألتفت دعهم فليركضوا… لن يصلوا…”
ـ عودة إلى الحاضر فاستذكار الماضي بل تماهي الحاضر بالماضي في شخص أخته زينة التي يقول عنها: ” كعادتها لم تتغير: تتعقّب خطواتي وتقرأ أفكاري ومن ثمّ تباغتني…” ثمّ مراوحة بين الآن وما كان وما سيكون ص19 فعودة إلى الآن: التحاق والده به فالعودة إلى استذكار ما كان شأنه مع والده وظلم معلّمه 20 ـ 21 وتتناسل الذكريات فيستحضر زوجة والده التي “… أشارت ذات عودة مدرسيّة أن أرسلوه لتعلّم الحلاقة عند سعيد…” فعودة إلى الحاضر بحضور سعيد يهرول ويلوّح بمقصّه الحافي وبإشاحته عنه بوجهه يصطدم بعبد الستار الموس، ص21 فعودة إلى استذكار ما كان من أمره مع عبد الستار لمّا زُجّ به عنده لتعلّم الجزارة، فعودة إلى الحاضر: قدوم روّاد مقهى السلام العاطلين عن العمل… فاستذكار ما كان له مع ذاك الذي احتال عليه وفرّ ص 22 فعودة إلى الحاضر بقدوم لمياء ابنة عمّه وبعض فتيات الجيران. وبقدوم شاحنة الحرس مترنّحة يمتزج الحاضر بالأمنيات: ” ليتهم يخاطبونني بمكبّر الصوت ! ليتهم يسألونني النزول ولي كلّ ما أريد !” فعودة إلى الحاضر: “لم يبق أحد من السابقين أو اللّاحقين لم يأت…” ص 23 وينتهي النصّ باستشراف ما سيكون: “عمود الكهرباء آيل للسقوط، ومنذر بالموت.” وهنا تكون المفاجأة: “وأنا أريد أن أحيا. ”
كلّ هذا التلاعب بالأزمنة كان بسلاسة كما الماء يجري إلى مستقرّه، ممّا يجعلني أجزم أنّ الكاتبة وفاء فتح الله تتقن اللّعبة، لعبة القصّ، فلا نشاز ولا ملل، بل هي تخاتل قارئها وتخيّب انتظاراته !
وهذه اللعبة التي أتقنتها الكاتبة تختلف من نصّ إلى آخر، فقد تتكثّف المراوحة في نصّ أكثر من غيره، ممّا يتطلّب من القارئ انتباها أكثر لتلك التحوّلات التي قد تقصر وقد تطول، بل إنّ الكاتبة قد تعمد إلى المقارنة في ذات الجملة أو الفقرة بين ما كان وما آل إليه وما سيكون، ومثال ذلك نص الزائر الغريب: ص25 الذي تستهلّه الكاتبة بوصف حالة في الحاضر على لسان ضمير المتكلم المفرد المؤنّث:” جالسة على حافة سرير حديديّ أبيض أقلّب النّظر في السّقف المقشّر… ” لتصل إلى القول: ” رحتُ أتأمّل وجها يشبه وجهي، أفرّ منه لألاقيه في مرآة صغيرة صارت تلازمني…” فمقارنة بما كان عليه الوجه وما آل إليه وبهذه المرآة التي صارت مرصدا لهذا الوجه المتغيّر قد اختزلت بإيجاز شديد زمنين في آن: الماضي والحاضر لتنبري في الفقرة الموالية إلى التفصيل، تفصيل ما ظلّ من وجهها على حاله وما طرأ عليه من تغيّرات جعلت ” دقات قلبها تتسارع وتعلو فيحتدّ الوجيب… ويهجرني الصّفاء… هذا الذي نزع عني ثوبي واغتصب لوني وبتر أحلامي فبتّ غريبة عنهم وعنّي…” ص ص25،26 وبذكر حالة الغربة الّتي تعيشها الآن ينساب الحديث عن حالة الأنس التي كانت تعيشها مع حبيبها، حبيب أحلامها في الماضي عل شطّ بوجعفر، ص26 ولا تصحو من استرجاعها أو فلنقل من استرخائها ومحاولة تعويض الحاضر الأليم بالفرار إلى ماض سعيد إلّا على ” صرير الباب المباغت وصوت الممرّضة المبحوح أن مدّي يدك. قليلا من الدم . ثمّة تحاليل أخرى…” وهذه المراوحة مقارنة بين أنا الحاضر وأنا الماضي تنساب على امتداد النصّ في سلاسة ، مجازا حينا ومباشرة أحيانا…ص27 فيكبر الألم ولا أمل في الخلاص ما دامت حتّى أمّها تنظر إليها وتصرخ في صمت: “من أنتِ؟؟ من أنت؟؟” ولا مهرب من ليلها الطويل ومن همهمات والدها ونشيجها غير العودة إلى الماضي واستذكار لحظات السعادة والانتشاء بلقاء زميلها في كلية الحقوق في إحدى المظاهرات وترديدهما نفس الشعارات… ص 28 ثمّ لا تلبث أن تنتقل بنا مرّة أخرى من زمن العشق والصبابة والغزل إلى زمن التردّي والنكران والتعلّل بانعدام الريزو والصمت… ص29 ومن زمن صمت الحبيب إلى ما تلا ذلك من انفراج: “حبّة واحدة فقط، لمدّة ثلاثة أشهر… حبّة أشربها على الريق صباحا والزائر الغريب يلملم رويدا رويدا عباءته…” ص30 بعد ذلك، بعد البرء يظلّ الشوق إلى الحبيب الذي هجر ولا سبيل إلى التأسّي غير أن تجوب الشاطئ ذهابا وإيابا، استذكارا لما كان من طيب اللّقاء مقارنة ضمنيّة بسعير الجفاء. ولعلّ ما ختمت به الكاتبة النصّ من غوص الفتاة المتكلّمة قليلا قليلا في الماء وتحديث نفسها بأمنية تختزل عتابا: ” ما ضرّ لو صبغ نفسه كما فعلت قديما حبيبة لأجل حبيبها والتقاني عند الغسق؟؟؟” إنّما هو هذا التباعد البيّن بين الواقع المرير والحلم الذي تريده رومنسيّا مضيئا.
ــ المونولوق: والمونولوق أو حديث الذات للذات أو بوح الشخوص لذواتها في حالات التجلّي أو التردّي، شكوى وتذمّرا أو جلدا للذّات مطّرد أيضا وإن كان بنسبة أقلّ ممّا ذكرت سابقا… وقد توخّته الكاتبة أيضا في قصّها فحفرت في ذوات أشخاصها وسبرت أغوارهم وجعلتهم يبوحون بأسرارهم، ندما أو حيرة أو غضبا أو حياء أو خجلا… وقد تخيّرت من اللّغة ما ينسجم مع شخصياتها مراوِحة بين العامية والفصحى وبين اللغة العادية، من درجة الصفر إلى لغة الشعر القائمة على المجاز والاستعارة… ومثال ذلك نصّ برتقالة الغروب ص 37 ، انظر خاصة ص 38 ، 40 ، 41 ونصّ دمية الماء ص 65 انظر ص 66…
ــ لعبة الضمائر: عمدت المؤلّفة إلى تنويع كيفيات سرد الحكاية وطرائقها اعتمادا على الضّمائر إذ كثيرا ما تحجب الأسماء تماما أو تصرّح بها في ثنايا القصّ أو في آخر النصّ :
ـ نجدها في بعض نصوصها تَكِلُ السّرد إلى الرّاوي فيحدّثنا عنه أو عنها أو عنهم أو عن كلّ هؤلاء جميعا… من أوّل النصّ إلى آخره، ومثال ذلك نصّ “زهايمر” ، ص ص 33 ـ 35 حيث نجد الرّاوي يقصّ علينا مشهدا من حياة زوجين قد بلغا من العمر عتيّا وأُصيبا بالزهايمر فاقتصر السرد على ضميري هو وهي، وكذا الشأن في نصّ “برتقالة الغروب” ص ص37 ـ 44 إذ يراوح السّارد العليم في سرده ووصفه بين ضميري هو: (فريد المنتظر قدوم تلك التي أحبّها بالكليّة أو النّادل العجوز الذي التقاه بعد خمس سنوات بمقهى البلّور أو الطفل العابث بالبرتقالة) وهي: المرأة التي أحبّها فريد بالكليّة ثمّ افترقا ليلتقيا اليوم في ذات المقهى.
ـ ونجدها في نصوص أخرى تعمد إلى المراوحة بين ضمير هو وأنتِ وأنا لتفسح المجال للبوح والحوار الثنائيّ أو الباطنيّ ممّا يدخل على النصّ حركيّة تجلب انتباه القارئ وتجنّبه السرد الخطّيّ المملّ ويبرز ذلك جليّا في نصّ ” الزائر الغريب ” ص ص 25 ـ 31 .
ـ أمّا في نصّ ” المهرّج ” ص ص 49 ـ 53 فإنّ الكاتبة تقتصر على ضمير المتكلّم المفرد المذكّر: أنا وتجعل المتكلّم وهو المهرّج يسرد قصّته للقارئ على امتداد النصّ مراوحا بين الماضي والحاضر والآتي ومستذكرا بعض التفاصيل مع مخاطَبَته: أنتِ، أمّه الّتي يحاول أن يبثّها شكواه وهزائمه…
ـ وفي نصّ “الرّائحة الأخيرة” ص ص 55 ـ 59 نجد الساردة وهي تقف أمام مرآتها تشتقّ من ذاتها، من ضمير المتكلّم المفرد أنا ضمير الغائب المفرد المؤنّث هي لترسم هذا الاختلاف بينها وبين صورتها وإن تشابهتا: ” وأنا أهمّ بالخروج نظرتُ إليها ونقرتُ على البلّور الّذي يفصلنا. تبسّمتْ لمّا تبسّمتُ تُغيظُني، كلّما أمعنتُ فيها النّظر رتّلت قصّة العمر. ازددتُ يقينا أنّها تشبهني. هي ليست أنا، هي فقط صورة منعكسة على مرآة قديمة… ارتحتُ لهذا الخاطر وعن وجهها بوجهي أشحتُ.” ص 55. ومن ضمير أنا المنشطر تأخذنا الساردة المتكلّمة إلى ضمير الغائب المفرد المؤنّث هي لترسم لنا علاقتها الحميمة بها دون أن ندرك اسمها ولا الوشيجة التي تربطها بها إلّا باقتفاء صفاتها وأفعالها لندرك أنّها جدّتها الأثيرة لديها. ولا يختلف الأمر كثيرا في نصّ ” دمية الماء ” ص ص 65 ـ69 إذ تسرد الراوية الأحداث بضمير أنا في علاقته مراوحة بالضّمير هي: أمّها ودميتها وجدّتها دون ذكر الأسماء مع ما للأسماء من دلالات.
إنّ هذا التنوّع في الضّمائر وهذا التّعالق بينها يكسبان النّصوص حركيّة ودفعا للأحداث واختزالا للأزمنة ويحملان القارئ على مزيد الانتباه والتركيز ليظفر بالوشائج بين الفواعل والأمكنة والأزمنة كما يشوّقانه إلى إزاحة اللّثام تدريجيّا عن أصحاب الضمائر في تآلفها وتنافرها… بل قد تكون أيضا من وسائل التكثيف والاختزال في مثل هذه النّصوص الوجيزة في أغلبها…
” دمية الماء” نصوص أدبيّة تجريبيّة انتهجت فيها المؤلّفة سبلا شتّى للتعبير عن شواغلها الّتي هي شواغل مجتمع لا يزال يتأرجح بين حاضر مرير وماض أدبر وما ولّى ما دام يسكن الذاكرة وينعش أصحابها وآت يغشّيه الضباب. وهذه النّصوص وإن كانت الوليد البكر للمؤلّفة فإنّها تبشّر بقدرة وفاء فتح الله على الإتيان بنصوص أخرى تشي بنضج تجربتها الإبداعيّة في المستقبل.
تونس، في 3 فيفري 2018 بدار الثقافة بباب سويقة.