تونس :مختصر بحث نقدي حول “دور الرواية العربية في تعزيز الانتماء” قدم في ندوة بدمشق أفريل 2006 بدعوة من وزارة التعليم العالي:لمصطفى مداءني
متابعة:لسعد الحرزي مدير مكتب تونس
تناولت في هذا البحث دور الرواية العربية في تعزيز الانتماء، فبعد أن شرحت معاني الكلمات والتعابير الواردة في نص الموضوع: “دور الرواية العربية في تعزيز الانتماء” خلصت إلى القول بأنّ الرواية العربية تمر الآن بأخصب فتراتها رغم الظروف المحيطة بالعالم العربي. واستشهدت على ذلك بثلاث روايات هي:
– “المسافرة” لشوقي بغدادي، الصادرة سنة 1994 عن دار الآداب بيروت.
– “شرف” لصنع الله إبراهيم، الصادرة عن دار المدى بسوريا سنة 2001، وقد صدرت في طبعة أولى سنة 1997 عن دار الهلال بالقاهرة.
– “الكرنفال” لمحمد الباردي، الصادرة بتونس 2004.
وهي روايات تهدف بالأساس إلى وصف حالة أبطال يجابهون حياتهم وسط محيط يدفع بهم أحيانا إلى التنكر له، إلاّ أنّهم في الأخير يعودون إلى المنطلق. فإذا هي رحلة عبر تجاويف الحياة تفيد أنّ هذا الشكل ليس إلا تصويرا حقيقيا لمحيط يسعى إلى قتل الانتماء، إلا أنّ الفرد فيه يجابه عالما خارجيا يهدف أصلا إلى تشييئه، وفق نظرة مدروسة، تتضح معالمها إذا استوعب الفرد معنى العولمة التي ليس لها من هدف إلا إنتاج محيط يقتل ما يسميه الباحث الأمريكي سكنر “الإنسان المستقلّ” الذي يحمله الإنسان بداخله، وذلك من خلال مؤلفه ” في ما وراء الحرية والكرامة”. وقد استفدت كثيرا من هذا المرجع، لأنّه هو الذي حدّد في نظري, رؤية أمريكا للعالم اليوم.
ويتضح لدارس الرواية الأولى، أنّ الكاتب وصف بدقة وموضوعية تجارب مجموعة من الشّخوص من أجل تحقيق ذواتهم من خلال تحقيق آمالهم. ورغم مرارة التجربة فإنّ أغلب الشخوص لا ينقطع أملهم أبدا. إلاّ أنّ شرود “عريفة” يبيّن الموقف الخطير الذي تجابهه الأمة العربية عبر واقعها المعيش. وإذا علمنا أنّ شوقي بغدادي قد ألف هذه الرواية سنة 1966، وتردد في نشرها، نعلم أنها رواية تصوّر تجربة تكاد تكون واقعية. وهي بذلك صوّرت مرحلة وعي بدأ يستشري لدى أفراد المجتمع العربي آنذاك.
ويتبيّن للدارس الحصيف أنّ القاص صنع الله إبراهيم قد توصّل في روايته ّشرف” إلى إبراز قيمة “العرض” باعتباره فضيلة من الفضائل التي عرف بها المجتمع العربي، هي قيمة تحدّث عنها بشر فارس في أطروحته: “العرض عن العرب” بإطناب وأبانها بدقة. وقد سعى صنع الله إبراهيم إلى أن يؤكّد بطرف خفي، أنّ الشخّصية التي اصطفاها: “أشرف عبد العزيز سليمان” أو “شرف” كما ألفت أمّه أن تناديه لم يتغيّر ولم يستسلم، رغم العوائق المتعددة والصعوبات الشديدة فإنّه بقي إلى آخر الرواية متشبّثا بنقاوته وصفائه. فقد اتضح للقاص أنّ العولمة وهي مقبلة بخطى حثيثة تهدف بالأساس إلى أن تنخر قيم المجتمع حتى تتمكن منه بأيسر السبل. إنّه الانتماء العميق المرتبط بما يسميه الأديب والعالم النفسي سكنر “الإنسان المستقل”.
ويستشف الدارس لرواية محمد الباردي الموسومة بـ”الكرفنال” سعى الكاتب إلى تصوير واقع مدينة تعيش تجربة التغير. وما ينجر عن هذه التجربة من فواجع، هي مرتبطة أصلا بما يعرفه المجتمع من إرهاصات تحوّل كبير. فبقدر ما يرتبط الكاتب بمدينة قابس بالجنوب التونسي، تلتحم شخوصه بالعالم كلّه. فالبطل سليم النجار أستاذ الفلسفة الذي يفتتح به القصّ ليس شخصية متقوقعة، وقد طالته يد الخونة. ومن ثمّ اتضح أن ما كان يعدّ انتحارا ليس إلاّ تمويها. ولعل ما يبرز تعزيز الانتماء في هذا النصّ هو متابعة الراوي للأحداث بصورة ذكية عبر كرنفال حاول قدر المستطاع أن يكون أمينا. وينجلي للدارس أن الكاتب اتخذ من الكرنفال ذريعة لتصوير شخوص لا يلهجون حتى في أحلك ظروفهم إلا بذواتهم وأصولهم. إنّنا أمام أفراد لا يتورّعون على إبراز هوّياتهم مهما استبد بهم الخوف والريبة والقنوط.إنّنا أمام شخوص لم يمت فيهم ذلك” الإنسان المستقل”، رغم كلّ المؤشرات التي قد توحي بأنّ العولمة قد بدأت تفعل فعلها في المجتمع العربي المعاصر.
لقد قام التحليل على إبراز أهمية” الإنسان المستقلّ”. وأقصد به الذات المميزة للشخصية وهو العماد الذي أقام عليه سكنر نظريته. لقد أراد هذا العالم أن ينتصر لفكرة راودته كثيرا مفادها أنّه بالإمكان إيجاد تقنية للسلوك تمكّن ثقافة مّا أن تسود. لذلك دعا بقوّة إلى اعتبار أنّ المحيط هو المؤثّر الحقيقي في الإنسان، في حين يرى أن الأدب التقليدي هو أدب للحرية والكرامة. وهما، في نظره، قيمتان لا معنى لهما. إذ الإنسان ابن بيئته. وهو يرى أنّ هذا الأدب يقف ضد التطور التقني بما في ذلك مادة السلوك لأنّ التقنيات تهدم حظوظ استحسانها” وهو أمر يرى سكنر أنّه يقف حجر عثرة أمام تطوّر الإنسانية، ويدعو هذا العالم الذي كان قد كتب رواية وسمها بـ”العالم الثاني” إلى بعث مجتمع ذي سلوك منتظم غاية النظام, بطريقة تمكّن من السيطرة عليه سيطرة كلية. ويؤكّد لاحقا في مؤلفه ” في ما وراء الحرية والكرامة” إنّ أدب الحرية والكرامة يشوّش (تقنية السلوك) وقد يكون ذلك مهلكا وهو ينبه بوضوح أنّه يتعيّن على الثقافة الأمريكية أن تقوم بدورها لأنها ،في نظره، الأجدر في هذا الظرف بالذات. ويعلق بعد ذلك “إن لم تقم بذلك الدور فقد تقوم ثقافة أخرى بتقديم مساهمة أهمّ لمستقبل الإنسانية”.
إنّ دور الأدب في عصرنا الحالي يكتسي صبغة خاصّة ونحن على أبواب عولمة صارخة قادمة.مصطفى مدائني