“الحياة ذكريات جميلة وحزينة، سعيدة ومؤلمة، قد تكون مليئة بالإنجازات، أو بالإخفاقات؛ وتبقى الصورة هي التي تسجل هذه الذكريات وتحتفظ بها، لتصنع تاريخنا.”
كانت هذه مقدمة إحدى مقالات “صورة في حدوته” في موقع أوبرا مصر، بقلم أستاذي ومعلمي الفاضل “حسام عبد القادر”
ولا أخفي عليكم سرا، لقد توقفت عند هذه المقدمة عدة دقائق وقرأتها مرارا وتكرارا، ومن ثم استكملت قرأة المقال الذي كان يحكي عن شخصية عظيمة تسير على مبدأ مختلف في عصر يملؤه التكنولوجيا الحديثة والتطور غير المسبوق خصوصا في التصوير.
ويحكي أستاذ حسام عبد القادر عن صديقه الأستاذ أحمد عبد الفتاح، الأثري الكبير ومستشار وزير الآثار ورئيس قطاع الآثار بغرب الدلتا سابقا، والذي لايحمل موبايل ولا يعترف به حتى الأن!
وأثناء قرأتي، تذكرت نفسي منذ أكثر من 25 عاما، فقد كنت لا أحب الصور ولا التصوير، ولم يكن وقتها التصوير سهلا ومتاح للجميع مثل الأن، بل كان من لديه كاميرا يعد من الأغنياء ميسورين الحال، وكان والدي يحب التصوير كثيرا ويحرص دائما على شراء كاميرات جديدة وحديثة من حيث النوع والخامة، وأيضا كان يحرص دائما على وجود الكاميرا معنا في الرحلات والمصايف والحفلات، وأتذكر حينها كان فيلم الكاميرا يحتوي على 36 صورة فقط ولم يكن سعره رخيصا، وكان والدي يشتري عدة أفلام لتكون معنا احتياطيا ونتصور جميعا، وكنا ننتظر من ثلاثة أيام لأسبوع (حسب انشغال الاستديو) حتى يتم تحميض الفيلم وتستلم الصور الورقية التي هي أكبر من كف اليد؛ وأيضا من الممكن- بعد كل هذا الانتظار- أن لا تجد صورة معينة بينهم؛ لأنها ببساط أتحرقت في التحميض!
وبقيت هكذا لا أحب التصوير ولا الصور حتى وفاة إحدى عماتي في 2003 – رحمة الله عليها- والتي كانت أيضا لا تحب التصوير كثيرا وكنا نادرا ما نجد لها صورة بين ألبومات الصور الكثيرة التي تملأ الأدراج والدواليب. حيث كان لنا عادة عائلية بسيطة في قضاء وقت عائلي وأسري تجوبه الذكريات ومشاعر الحنين في الفرجة على ألبومات الصور وتذكر لحظات الضحك والنجاح والحفلات والأعياد من خلال الصور، ونترحم أجدادنا وأقاربنا الذين توفاهم الله ولا نراهم إلا في الصور الأبيض وأسود! – رحمة الله عليهم جميعا وعلى أمواتنا جميعا.
وبعد وفاة والدي في 2006 – رحمة الله عليه، انقطعت هذه العادة لسنوات عدة؛ حيث كنت لا أمتلك القوة للشعور بهذه الذكريات مجددا وتذكر هذه اللحظات التي أصبحت حزينة أكثر فأكثر بعد وفاة الأقرباء والأصدقاء واحدا تلو الأخر.
وتمر الأعوام وتتطور التكنولوجيا أكثر فأكثر وتظهر الموبيلات بالكاميرات بجودات عالية جدا، والتي زاد تأثيرها بقوة خصوصا بعد الأحداث السياسية في 2011، وبالتالي تغيرت وجة نظري كثيرا في مسألة التصوير والصور، وبدأت أعيد تفكير في الأمر، وتيقنت أن بدون صورة لا توجد ذكرى، وأن أهمية الصورة لم تكمن فقط في لحظة لقطتها، ولكنها تكمن في مرور عدة سنوات عليها ورؤيتها مجددا -عن قصد أو عن طريق الصدفة- بعد أن أصبحت ذكرى!
وفي حقيقة الأمر، أدركت تدريجيا أهمية تأريخ وتوثيق لحظاتنا السعيدة والحزينة وإنجازاتنا وإخفاقاتنا “بصورة”، وأصبحت أتصور كثيرا بمفردي –سيلفي- أو مع الأصدقاء وأحرص أن تكون هذه اللحظات سعيدة، أو بها إنجاز معين، أو موقف معين حزين أو سعيد، أو أتصور كل يوم صورة بلا هدف! ولكن مازلت لا أحب أن يأخذ التصوير مساحة كبيرة من وقتي وتفاعلي مع الناس والأحداث بشكل مباشر، والآن أرى أن كثير من البشر يهتم بالتصوير في كل لحظة فقط من أجل التفاخر والتباهي والتريند أكثر ما يهتم بأن يعيش اللحظة ويشعر بها وبجمالها أو بألامها، بشكل حقيقي ومؤثر. واعتقد أن هذا هو سبب رفض الأثري الأستاذ أحمد عبد الفتاح للموبايل، حيث أنه يفضل التعامل والتواصل المباشر مع البشر عن طريق المقابلات المباشرة والاتصالات الهادئة عبر التليفون الأرضي والاحتكاك المباشر والمؤثر مع أرض الواقع وليس فقط بالتخيل عبر مواقع افتراضية زائفة!
-عودة إلى الصورة صديقي القارئ- فلا يجب أن تكون الصورة دائما حلوة، فحلاوة الصورة ليست بقيمة الديكور والخلفيات الباهظة والأماكن الترندي والملابس الغالية والمؤثرات المعقدة، فكل هذا في رأيي يقلل من القيمة الحقيقية للصورة ويجعلها مصطنعة وغير صادقة. فبكل بساطة “أضحك الصورة تطلع حلوة” ليس هذا فقط أسم فيلم للفنان القدير أحمد ذكي –رحمة الله عليه- ولكنها أيضا جملة حقيقية معبرة جدا عن حقيقة جمال الصورة، فالضحكة الصادقة من القلب ومشاعر الفرح والحب والشعور الداخلي بالإنجاز والسعادة والرضا، يظهر حتما على وجهك في الصورة.
ولا يشترط أبدا أن تحدد قيمة الصورة بعدد الليكات والتعليقات التي تحصل عليها بعد نشرها على مواقع التواصل المختلفة، فكثير من الناس يتصور فقط من أجل التفاخر بالصور مع الشخصيات المشهورة والهامة التي تظهر معه في كادر واحد فقط بشكل غير مقصود، ولكنه يريد أن يصدر صورة عن نفسه على مواقع التواصل أنه شخص مهم ويتصور مع شخصيات هامة، والكثير أيضا يتصور صور بها مؤثرات مرعبة ولا يمكن تصديقها بالعقل المجرد، وقد نسي أن جمال الصورة في بساطتها وتلقائيتها وصدق لحظة التقاطتها وخصوصية لحظتها.
للصورة ألف كلمة وليست كل الصور للنشر، فكثيرا ما أتصور لنفسي فقط لتأريخ وتوثيق لحظاتي والسعيدة والحزينة على حد سواء، والأن أصبح جوجل فوتوز Google Photos، يشكل جزء مهم من حياتي حيث أنه يسجل جميع الصور التي ألتقطها بالتواريخ والأشخاص ويعيد تذكيري بها في نفس اليوم أو الوقت أو المناسبة من الأعوام الماضية؛ فالنسبة لي، فإنه يربط الماضي بالحاضر ويشكل جزء من تفكيري في المستقبل، لأنه كثير ما يذكرني بصور منذ سنوات بها أشخاص لم يكونوا جزء من حياتي في الحاضر ولكنهم كانوا ضمن لحظة جميلة عشناها سويا فأذكرهم بالخير وأعاود الاتصال بهم والتواصل معهم – أو ربما لا أرغب في التواصل معهم مجددا وأكتفي بهذه الذكرى، أو يذكرني جوجل بأشخاص توفاهم الله ولا توجد غير هذه الصورة التي تجمعني بهم في لحظة معنية فأدعو لهم وأترحم عليهم.
تذكر جيدا عزيزي القارئ أن كلا منا لديه فرصة عظيمة لبناء ألبوم ذكرياته كما يريد، حيث يمكنك أن توثق فيه لحظات طيبة فتصبح ذكرى سعيدة وجميلة لمن يتصور معك أو توثق فيه لحظات قاسية مؤلمة لا يذكرك فيها أحد بالخير.