متابعة دكتور علاء ثابت مسلم
فِنْجَان قَهَوَة مَع آِصّحَاب الِيَاقَات الْبَيْضــــــاء
مازالَ صاحبنا محافظاً على تقاليد الأناقةِ الأوروبية
القميصُ الأبيضُ
والياقاتُ البيضاءُ
لم يتنازل قط عن الياقة البيضاء حتى الأن .
اعْتَاد صَاحِبُنْا أَن يَرْتَشِف فِنْجَانَا مِن الْقَهْوَة عَصْر كُل يَوْم فِي مَكَانِه الْمُفَضَّل
(( مَحَلَّات تَرَيــــــــــــــــــــانَوِّن ))
فِي وَسَط الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَالَّذِي يُطِل عَلَى شَارِع سَعْد زَغْلَوْل، وَأَشْهَر مَيَادِيْنِهَا مَيْدَان مَحَطَّة الْرَّمْل، يَتَأَلَّق مُطْعِم وَحُلْوَانِي ((تَرَيـــــــانَوِّن))
بِبَهَائِه الْمُمَيَّز عَلَى نَاصِيَة ثَلَاثَة شَوَارِع رَئِيْسِيَّة، بِمِظلاتِه الْبَيْضَاء الَّتِي كَتَب عَلَيْهَا بِالْلَّوْن الْأَحْمَر اسْم الْمَطْعَم الَّذِي أَصْبَح عَلَامَة مُمَيَّزَة فِي قَلْب الْمَيْدَان الْعَرِيق, وَقِبْلَة لآصْحَاب الْذَّوْق الْرَّفِيْع.
كَان لِلْقَهْوَة مَذَاقَا خَاصَّا , بَعْد الْعَصْر وَقُبَيْل الْغُرُوْب حِيْنَمَا تَنْحَدِر الْشَّمْس نَحْو الْغُرُوْب , وَهِي تَجُر ذَيْلَهَا مِن الْشَفَق الْأَحْمَر الَّذِي يَنْعَكِس عَلَى صَفْحَة الْمَاء , فَيَزِيْدَهَا رَوْعَة وَخَجَلَا جَمَالْأ , وَسَرَعَان مَا يَخْتَفِي قُرْص الْشَمْس بَعِيْدَا وارِء خَط الْأُفُق , وَتَقَبَّل دَوْلَة الْلَّيْل بِكُل مَافِيْهَا مِن سِحْر وَجَمَال وَدَلَال.
وَاجِهَة
(( تَرَيــــــانَوِّن ))
الْمُطِلَّة عَلَى الْكُونِيش جُعِلْت صَاحِبُنْا ان يَنْتَحِي لَه مَكَانْا , تَم حَجَزَه خَصَّيْصَا لَه بِاسْم مَكَان (( الْمفكر والكاتب )) هذا المكان كانتْ تجلسُ فيهِ الملكة صوفيا , ملكة أسبانيا .
هَذَا الْمَكَان لَه مَذَاق خَاص يَجْمَع بَيْن الْفَخَامَة وَالْأَصَالَة، وَحِيْن تَدْخُل سْتَنْدُهش مِن أَصْنَاف الْحَلْوَى و الشوْكُوَلاتِه الْشَّرْقِيَّة وَالْغَرْبِيَّة وَأَنْت تَتَذُوْقَهَا عَلَى أَنْغَام مُوْسِيْقَى رَوْمُانسَية هَادِئَة.
عَالِم (( تَرَيـــــانَوِّن ))
يُصِيْبَك بِالْدَّهْشَة وَيَخْلِب حَوَاسِّك ، فِي تَصَمِيمَة الْأَخَّاذ وَالدَيُكُوْرَات الْبَدِيْعَة الَّتِي تَجْمَع بَيْن الْرَّوْنَق الْأَوْرُوبِي وَنُقُوش الْخَشَب الْشَّرْقِيَّة وَالرُّسُوْم الْرَّائِعَة بِرِيِشَة فَنَّان إِيْطَالِي لَا تَزَال مُحْتَفِظَة بِأَلْوَانِهَا الْزَّاهِيَة، وَالَّتِي تَخْلُق أَجْوَاء لَا مِثَيِل لَهَا.
حِيْنَمَا تَدْخُل الْمَكَان تَشْعُر بِرَهْبَة مِن الْعَرَاقَة وَالانَاقَة , فَضْلَا عَن مُسْتَوَيَات رُوّادُه مِن آِصّحَاب الِيَاقَات الْبَيْضَاء , هُنَا تَسْمَع الْعَدِيْد مِن لُغَات الْعَالَم ,
الْفَرَنْسِيَّة وَالايطَالِيّة وَالْيُوْنَانِيَّة وَالانْجْلِيْزِيَّة وَالْأَلْمَانِيَّة وَغَيْرِهَا , وَهِي لُغَات الْحِوَار بَيْن الْعَامِلِيْن وَرُوّاد الْمَقْهَي الْشَّهِيْر , الَّذِي كَان لَه صِبْغَة ثَقَافِيَّة خَاصَّة بِسَبَبِهَا يُعْتَذَر عَن دُخُوْلِه دُوْن الْمُثَقَّفِيْن.
كَان صَاحِبُنْا يَعْشَق هَذَا الْجَو الَّذِي يَقْدِم لَه رِحْلَة مَجَّانِيَّة إِلَى اوْرِوبُا , فَضْلَا عَن رَائِحَة عَبَق الْتَّارِيْخ الثَّرِيَّة الَّتِي تَنْبَعِث مِن كُل زَاوِيَة مِن زَوَايَا الْمَكَان , بَل كَانَت هُنَاك رَسَائِل مَن الْمَاضِي الْعَرِيق تُبْسَط سُلْطَانَهَا عَلَى الْمَكَان وَزُوّارِه.
تَرْوِي لَنَا الْقَصَص الْمُتَعَدِّدَة حِكَايَة
(( تَرَيــــــانَوِّن ))
تِرِيَّانُون يُوْنَانِي الْأَصْل وَتَارِيْخُه يَعُوْد لِنَحْو أكثر من 120 عَاما، وَقَد اشْتَرَاه الْيُوْنَانِي يوْرْغُوس بِيرلَيْس مُؤَسِّس حَلْوَانِي ((بَيَتَيت تِرِيَّانُون))، بَعْد ذَلِك اشْتَرَاه (جُرَانَد تِرِيَّانُون) مَع عَائِلَة قُسْطَنْطيْنِيَدّس وَأنْدريّا دْرَيكُوس، وَبَدَأُوا فِي التَّوَسُّع وَفِي الْسَّبْعِيْنَات انْفَصَل بَيَتَيت وَجُرَانَد تِرِيَّانُون، وَالْجَدِير بِالْذِّكْر بَعْض الْيُوْنَانِيِّيْن الَّذِيْن كَانُوْا يَعْمَلُوْن بِالْمَطْعَم كَان أَشْهَرَهُم اسْمُه كُوستّا وَكَان مَسْؤُوْلا فِي المَخَازِن، ويَانِي فِي قِسْم الْحُلْوَانِي، وَالْمَتْر سْتَاوْرو، وَألِيَكُو كَان كاشِيْرا وَهُم مِن تِعَامَلْت مَعَهُم.
وَالْأَن بِمُرُوْر الْوَقْت تَوَسُّع تِرِيَّانُون وَأَصْبَح أَشْهُر سِلْسِلَة مَطَاعِم وَحَلَوِيَّات فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَالْقَاهِرَة، وَامْتَدَّت فُرُوْعُه مِن مَحَطَّة الْرَّمْل وَحَتَّى الْعَجَمِي لِيُقَدِّم أُكُلَات مِن الْمَطْبَخ الْفَرَنْسِي وَالإِيطَالِي وَالصِيْنِي إِلَى جَانِب الْمَأْكُوْلَات الْشَّرْقِيَّة. وَقَد اشْتُهِر تِرِيَّانُون بَيْن كُبْرَيَات الْعَائِلات بِتَقُدِيمِهُم خَدَمَات تَجْهِيْز الْحَفَّلَات دَاخِل وَخَارِج الْإِسْكَنْدَرِيَّة». شُهْرَة تِرِيَّانُون سَاهَم فِيْهَا زَبَائِنَه أَيْضا،
فَقَد كَتَب الْأَدِيب الْعَالَمِي نَجِيْب مَّحْفُوْظ فِيْه بَعْض سِينَارْيوَهَات أَفَلامَه، كَمَا كَان تَوْفِيْق الْحَكِيْم مِن عُشَّاقِه وَذَكَرَه فِي وَاحِدَة مِن أَجْمَل الْسِيَر الْذَّاتِيَّة فِي الْأَدَب الْعَرَبِي (سُجِن الْعُمْر)، كَذَلِك كَان مِن رُوّادِه الْشَّاعِر عَبْد الْرَّحْمَن الأَبنُودِي وَالْشَّاعِر الْرَّاحِل أَمَل دَنَقَل , وَصَاحِبُنَا كَاتِب تِلْك الْيَوْمِيَّات الَّذِي سَطَّر أَوَّل سُطُوْرِهَا فِي هَذَا الْمَكَان الْعَرِيق.
وَيُحْتَفَظ تِرِيَّانُون بِتَوْقِيْعَات رُوّادُه فِي عَدَد مِن الْمُجَلَّدَات الْأَنِيْقَة الْخَاصَّة بِالِزِيَارَات , وَقَادَنِي الْفُضُول لِلْتَعَرُّف عَلَيْهِم وَاسْتِشْرَاف مَاضِي الْمَطْعَم الْعَرِيق، فَكَان أَهَمَّهُم
(( الْمَلِكَة صُوَفِيّا مَلَكَة إِسْبَانْيَا ذَات الْأَصْل الْيُوْنَانِي، وَالْأَمِير تُرْكِي بْن عَبْد الْعَزِيْز، وَالْسَّيِّدَة جِيْهَان الْسَّادَات، وَفُؤَاد سِرَاج الْدِّيْن، وَالسِّيَر مَجْدِي يَعْقُوْب، وَّالْدُكْتُوْر أَحْمَد زُوَيْل وَصَفَوْت الْشَّرِيف وَالْمُشِيْر الجِمْصي وَزَيْر الْدِّفَاع إِبَّان حَرْب 73، وَالأَمِيْرة فَوْزِيَّة وَالْمَلِكَة نَارِيْمُان وَأَدْهَم الْنَّقِيِّب زَوْج الْمَلِكَة نَارِيْمُان. وَكَذَلِك كَثِيْر مِن الْشَّخْصِيَّات الْبَارِزَة وَالْوُزَرَاء وَنُجُوم السِّيْنَمَا وَالْتِلْفِزْيُوْن، وَمِنْهُم: الْفَنَّان مُحَمَّد أَحْمَد الْمِصْرِي (أَبُو لُمْعَة)، وَالّفَنَانَة يُسْرا وَلَيْلَى عُلْوِي ولَّبُلَبة وَأَحْمَد زَكِي وَمَحْمُوْد مُرْسِي وَعَبَّاس فَارِس وَالْفَنَّان حَمْدِي غَيْث الَّذِي كُتِب: «لِأَوَّل مَرَّة أَرْتَاد مُطْعِم تِرِيَّانُون وَسَعِدَت بِوُجُوْد هَذَا الْمُسْتُوَى الْرَّائِع مِن الْجَمَال بِمَا لَا يَقِل عَن أَعْظَم مُسْتَوَى أُوْرُوبِّي ))
بَيْنَمَا كُتِب كُوسْتَانِتَيَنّو، وَزِيَر الْدَّاخِلِيَّة الْيُوْنَانِي جُمْلَة مُعَبِّرَة عَن سَر عِشْق تِرِيَّانُون «دَفَء تِرِيَّانُون نَابِع مِن دِفْء الإِسْكَنْدَرَانِيِّين، وَهَذِه الْأَجْوَاء تُعِيْدُنِي بِشِدَّة إِلَى إِسْكَندِرِّيَّتِي الْكُوْزَمَوبِوِلِيْتَانِيّة». وَمَن الْتَّوْقِيْعَات الْطَّرِيْفَة تَوْقِيْع إِحْدَى الزَبُوِّنَات الإِنْجلِيْزَّيَات الَّتِي وَقَعَت بِاسْم الْمَلِكَة إِلِيْزَابِيْث فِي دُعَابَة مِنْهَا.
كان صَاحِبُنْا يعْشَق هَذَا الْبِيَانُو الْعَتِيْق بِمَظْهَرِه الْآَسِر الَّذِي يَحْتَل رُكْنَا يُسَيْطِر عَلَى قَاعَة الْطَّعَام بِأَكْمَلِهَا، كُنْت أُحَاوِل أَن أُدَاعِب أَصَابِعِي فِي الْعَزْف عَلَى أَصَابِع ذَلِك الْبِيَانُو الْفَرَنْسِي الَّذِي يَعُوْد إِلَى عَام 1911،وَكَأَنَّنِي أَتْرُك تَوْقِيْعَا مِن أَصَابِعِي كَمَا فَعَل الْسَّابِقِيْن مِن قَبْلِي اتَذَكَّر مِنْهُم إِبْنَه الْرَّئِيْس الْسَّادَات أَيْضا كَانَت تَعْشَق الْعَزْف عَلَيْه كُلَّمَا تَنَاوَلْت غَدَاءَهَا هُنَا.
جُدْرَان الْمَطْعَم لَا تَزَال مُحْتَفِظَة بِرَوْنَقِهَا مُنْذ أكثر من 120 عَاما، إِذَا قُمْت بِجَوْلَة سَاحِرَة بَيْن دَهَالِيْز تِرِيَّانُون، سَتَجِد أَن كُل قِطْعَة أَثَاث فِي الْمَطْعَم تُعْتَبَر مِن الأَنْتِيكات الْثَّمِيْنَة. أَمَا الْقِسْم الْثَّانِي مِن تِرِيَّانُون فَهُو قَسَم الْحُلْوَانِي وَهُو يَعُج بِأَنْوَاع الشوْكُوَلاتِه وَالْحَلَوِيَّات ذَات الأغُلْفة الْبَرَّاقَة.
يُعْتَبَر تِرِيَّانُون قِبْلَة لِعُشَّاق الْطَّعَام الْفَرَنْسِي، فَهُو يُقَدِّم الَكَوكتَيلَات وَأَصْنَاف الْمَأْكُوْلَات الْبَحْرِيَّة، بَل ابْتَكَر صِنْفَا جَدِيْدا وَهُو تَقْدِيْم الْجَمْبْري بِالكِنَافَة وَالَّذِي يُقَدِّم مَع صُوْص حَار، هَذَا فَضْلا عَن الْمِيكَس غِرِيل، وَالْدَّجَاج عَلَى الْطَّرِيْقَة الْصِّيْنِيَّة، وَالنَودِلّز، هَذَا إِلَى جَانِب الْشَّرْكَسِيَّة أَو الأُوْزِي.
ارْتَشْف صَاحِبُنْا رَشْفَة مِن قَهْوَتَه فِي هَذَا الْمَكَان الْعَرِيق الْأَنِيْق الَّذِي تَنَفَّس فِيْه شَهِيْق إِبْدَاع ثَقَافَة الْشَّرْق وَزَفِير عَرَاقَة الغْرْبُو, وَصَمَت بُرْهَة وَكَأَنَّهَا الْدَّهْر وَعَاد لِيَطْرَح الْسُّؤَال عَلَى نَفْسِه ….!!!
كَيْف يَتَغَلَّب عَلَى مُشْكِلَة الْلُّغَة الْفَرَنْسِيَّة……؟
وَهْنَا فِكْر فِي فِكْرَة…..!!!
مَاهِي…؟
انتظرونا في الْحَلْقَة الْقَادِمَة
دكتور / محمد حسن كامل
رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب