ولأننا في عصر الرؤيا الإرتدادية والزيف الباهت ، ارتأيتُ الرحيل نحو تاريخ هَرِمْ يعتمرُ قبعة لها جناحا غراب ، حدثني بمشقَّة يعانيها في التنفس عن العالم مديراً ظهره لنافذة الواقع الحاضر ، يلصقُ على جدران الحارات العتيقة في أوطاننا العربية المتفرِّقة لوحات مضيئة بجزئية خالدة ، بعدها ينثرُ رائحة البرتقال البرِّي على أبواب منازل قاطنيها ، ويرشُّ الملح على أحجار مرصوفة بصبر سارت عليها قوافل متعددة المذاهب ليحفظها خوفاً من زنابق دامية تطاولت في ثقوبها لتفسد عقولنا وقلوبنا ..
ترهقنا تفاصيل مؤلمة فنتابع حياتنا كمنوَّمين في عالم من الغمُ برئات تثقلُ عليها رائحة الدم الخانق والبارود ، ولكي نتلافى السقوط نسترجع صوراً مشرقة لمرابع طفولتنا ، قصص عفوية جميلة نتداولها بحميمية خسرناها ربما بمحض إرادتنا بتتابع الأيام
فوانيس الصغار باحتفالية قدوم رمضان ، تعاطف الجيران في أطباق يتبادلونها قبيل موعد الإفطار ، لمَّة الأهل بوجوه مبتسمة وقلوب تترقَّب ضرب المدفع المترافق مع ” شهادة أن لا إله إلا الله ”
هامة “المسحراتي” وهو ينطلق مع عناق عقارب الساعة الإثنتي عشرة ليلاً برفقة صديقته ” الطبلة ” يلامسها بحنو عصا صغيرة منادياً : ( اصحى يانايم ، وحد الدايم )
ينقر الأبواب برفق ليوقظ الناس من أراجيح نومهم استعداداً للسحور بذكر آيات الله البينات فتنفرجُ الايادي البيضاء من خلف ستار لتعطيه بعض ما منَّ الله عليهم من حسنات وصدقات يضعها في جعبته ثم يوزعها في طريقه على المحتاجين والفقراء..
جولته الاخيرة تنتهي بابتسامة وديعة ويد تتناول العيدية بخجل ، راضياً شاكراً نقاء السريرة ، يمضي على إثرها برعاية الله
الآن ..
آفات الزمن قضت على جمال عاداتنا ، ظروفنا مأساوية قاسية ، العائلات الكبيرة تفككت لأفراد والفرد منا أشبه بحطام سفينة تسخر منها الأقدار ، شتتنا أفكار دخيلة على مجتمعاتنا ، نظام بارد سيطر على مشاعرنا ، عصا ” المسحراتي ” الصغيرة إن وجدت ..!!! فهي غليظة ..
لمَّة الأهل تمزقت أشلاءً في بلدان كثيرة ..
ربما أصدقائي لم يعد بإمكاننا الرجوع ، فالدروب التي نشقُّها لنمر من خلالها تعود للانغلاق بحسرة مريرة ، لكنَّ مازالت زوادة الروح عامرة لم ولن تنقص أبداً ، كلّّ بذرة خير نزرعها تتحول لبستان أخضر ، أشجاره تطرح ثماراً يانعة بطعم السكر ..
ثلاثة تمرات وكوب ماء أنوي الصيام بعدها ..
أراكم ..!!