كان ياما كان في سالف (وحاضر) العصر والأوان أربعة أشخاصٍ أسماؤهم هي : (كلّ شخص) و (شخصٌ ما) و (أيّ شخص) و (لا أحد) .
كانت هناك مهمّةٌ لابدّ مِن إنجازها على وجه السرعة، وطُلِبَ مِن (كلّ شخص) أن يُنجزها.
للأسف (كلّ شخص).. كان متأكداً أنّ (شخصاً ما) سيقوم بذلك!
(أيّ شخص).. كان يستطيع أن يُنجزها، لكن (لا أحد) أنجزها.
(شخصٌ ما).. غضِب لذلك، لأنها كانت مهمة (كلّ شخص).
(كلّ شخص).. ظنّ أن (أيّ شخصٍ) يستطيع إنجازها، ولكن (لا أحد) أدرك أن (كلّ شخص) لن ينجزها.
وانتهي الأمر بأنّ (كلّ شخص) ألقى اللوم على (شخص ما) عندما (لا أحد) أنجر ما كان يستطيع (أي شخص) أن ينجزه.
النتيجة :(لا أحد) هو المسيطر على الموقف ولا عزاء للمهمة .. عادي (مش مهمة) !
هل وصلت الرسالة؟
هل ربط العقل الباطن بين القصة وبين الواقع المؤسسي الكارثي للموظفين في بلادنا ؟
بالطبع حدث الربط فلا أشك في ذكائك عزيزي القارئ، فأنت تدرك أن آفتنا الكبرى هي الاتكالية، تلك التي ترسبت فينا منذ الاشتراكية القديمة التي تدور في فلك يربط شتاتها بعبارة (اشتغل كثيرا تخطيء كثيرا تجازى أكثر!) وبالتالي لا أحد يفكر في التطوير، لا أحد يسهم في دفع عجلة العمل، لا أحد لديه رغبة حقيقة في إنجاز عمل؛ فكلما كثر العمل بالتبعية تكثر الأخطاء !أما الخامل فهو بمنأى عن الجزاءات والخصومات !
أتذكر أنه قد حدث ذات مرة أن نفق حمار في مكان ما بالقاهرة، وأصدر رائحة كريهة، وظل فترة طويلة يمثل معاناة وعذابا لكل من يمر بالمنطقة، أما عن سبب طول تلك الفترة فتتلخص في أن السيد المسؤول بالحي غير مسؤول؛ لأن الشارع الذي مات فيه الحمار يقع في المنتصف بين الحي الذي يرأسه والحي الملاصق، وكل مسؤول يلقي التهمة على المسؤول في الحي المقابل .. والمواطنون لا حول لهم ولا قوة حتى تحلل الحمار مخلفا رائحة نتنة كسلوك السيدين المسؤولين الذين قررا بأنهما غير مسؤولين .. عما حدث !
إننا نعيش كارثة حقيقة اسمها الاتكالية، تلك الكارثة التي ربطتنا بدول العالم الثالث في تفكيرنا وسلوكنا ومناهجنا الدراسية ، فنقتل في شبابنا روح الإبداع والمنافسة والمبادرة، فالكل ينتظر الكل؛ كي يحل مشاكل الكل ! فيحدث لنا ما حدث للمدينة التي حلت فيها مجاعة رهيبة أكلت الأخضر واليابس، وبينما هم على ذلك إذ الملك يطلب من الشعب طلبا غريبا في محاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع :
طلب من كل فرد في المدينة أن يأتي بكوب من اللبن، ويضعه في قدر كبير جعله وسط المدينة، واشترط مع طلبه الغريب طلبا أغرب وهو :
أن يضع كل واحد الكوب وحده من غير أن يشاهده أحد، وعلى كل فرد أن يتخفى وهو يضع الكوب في القدر !
بدأ الناس يقومون بتلبية طلب الملك وتنفيذ أوامره ، وفي الصباح فتح الملك القدر .. وكانت المفاجأة :
وجد الملك القدر مملوءا بالماء وليس هناك أثر للبن.. !
هنا عرف كل واحد من الشعب جريمته، فكل واحد استصغر كوبه وقال في نفسه:
“إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل المدينة”، وسوف يتوه كوبي المملوء بالماء وسط هذا الكم الكبير من اللبن، معتمدا على ما يقدمه غيره، والكل فكر بنفس الطريقة ظانا أنه الوحيد الذي سكب الماء بدل اللبن !
والنتيجة التي عمت على الجميع أن الجوع أكل البطون، ومات الكثيرون منهم، ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات..!
نحن بحاجة إلى إعادة ترتيب العقلية المصرية من خلال تشجيع أولادنا على الأخذ بزمام المبادرة والجرأة، والرغبة الخالصة في العمل لصالح المجموع، فيصير الكل في واحد والواحد في الكل، وهذا ما يؤكده قول الله تعالى: ” وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ” فالله سبحانه يشجع في كتابه على الاعتمادية لا الاتكالية ، فكل إنسان محاسب على عمله والله مطلع عليه، لذا فعليه ألا يتأخر عن فعل ما يفيد، فالإسلام هو دين الإيجابية في العمل والقول والاعتقاد وهو الذي يدفعنا إلى الاعتماد على النفس؛ فكل نفس بما كسبت رهينة، وما رأيناه وقرأناه من سيرة المسلمين الأوائل يجعلنا نخجل من أنفسنا إذا وضعنا بين كفتي المقارنة، ومنها ما ذكرته لنا كتب التاريخ من قصة الأمير القائد البطل مسلمة بن عبد الملك، مع صاحب النقب !
فقد كان مسلمة في أحد معاركه وفتوحاته، وإذ بحصن منيع حاصره بالجيش مدة طويلة واستعصى على المسلمين فتحه، حتى كاد ييأس ويعود من حيث أتى، فالأمر جد خطير وفتح هذا الحصن يحتاج فدائياً من نوع خاص جداً لفتح نقب (ثقب) في جدار الحصن، حتى ينفذ منه الجيش إلى الداخل، بفتح باب السور، وكان هناك مكان يُعد مفتاحا لذلك الحصن إذا تم نقبه، ولكن للأسف لم يفلح أحد من الجيش وظلوا طويلا على ذلك ..
وإذ بجندي ملثم من جيش المسلمين يخترق الصفوف ويصعد الحصن في سرعة هائلة وفي يده فأس ضخمة ليحدث نقبا في الجدار، وفي سرعة البرق كان قد نفذ إلى داخله وفتح الباب وتم النصر للمسلمين!
فنادى مسلمة: “أين صاحب النِّقب؟” فما جاء أحد، وظل يبحث عنه ليكافئه ويطمئن عليه ألا يكون قد أصاه مكروه في المعركة، فأعياه البحث عنه كل ساعة ، وفي يوم جاءه رجل واستأذن الحراس في الدخول على القائد فهو يحمل معلومات عن صاحب النقب .
فسمح له بالدخول، وقال للقائد أنا أدلك على صاحب النقب، ولكن بشروط ثلاثة : ألا تذكروا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بمكافأة، ولا تسألوه: من هو؟ فوافق القائد ، فكشف للقائد عن شخصيته وقال : “أنا هو” .
فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: “اللهم أجعلني مع صاحب النقِّب”. في كل صلاة وظل يدعو الله بأن يحشره معه حتى مات!
فرحمة الله على صاحب النقب، وعلى كل بطل بذل الجهد والعرق وقام بواجبه على أكمل وجه، وكل من بادر ولم يلق بالمسؤولية على غيره، ولم يقل (فوت علينا بكرة يا سيد) وكل من يسّر على المسلمين أمرهم، وكل من لم ينتظر غيره ليقوم بعمله .
وأخيرا .. همسة في أذن كل فرد :
كن كالشمس في استنادك إلى نفسك فإن نور الشمس يشع من نفسه