قرأت مقالا للدكتور مصطفى محمود رحمه الله وضع كثيرًا من النقاط فوق الحروف، وكشف أمورًا هامة جدا وأسرارًا غابت عن الأمة بمفكريها وعلمائها خلاصته :
لا مانع عند أعداء الاسلام من أن نصلي ونصوم ونحج ونقضى ليلنا ونهارنا في التعبد والاعتكاف .. فَهُم لا يعادون الإسلام الطقوسي؛ إسلام الشعائر والعبادات والزهد، بل ربما شجعوا على التعبد والاعتزال، والطرق الصوفية !
ولكنَّ خصومتهم وعداءهم تصب في الإسلام الآخر.. الإسلام الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم وبنائه على مثاليات وقيم أخرى ..ِالإسلام الذي ينازعهم الدنيا .. الإسلام الذي يريد أن ينهض بالعلم والاختراع والتكنولوجيا،..الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والإصلاح الحضاري..من هنا تبدأ الحرب الضروس .. هنا سوف يطلق الكل عليك الرصاص .. “
ما أثار إعجابي في المقال أنه فرَّق بين نوعين من العبادة ، الإسلام الطقوسي في الشكل الخارجي لما يمارسه المسلمون من عبادات طقوسية، في مقابل الإسلام الذي جاء ليغير العالم وينفع كل البشر ويعيد الأمور إلى نصابها.
دفعني البحث في هذه النقطة إلى التأمل في حدث الرسول الشهير الذي انتهى بــ : “.. ولئن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في مسجد المدينة شهراً ” ومقولته صلى الله عليه وسلم :”خير الناس أنفعهم للناس”
الرسول رسم لنا الطريق الذي خفي على الكثير من المسلمين الذين قصروا الإسلام على الأمور الشكلية التي يأخذ منها البعض الشكل العام للدين، دون التعمق فيما بداخله من جوانب الروعة والعظمة التي ساد بها الإسلام العالم في يوم ما .
فقضاء حاجة المسلم أفضل من عبادة شهر اعتكافا في مسجد تقدر فيه الصلاة بألف صلاة، فلتحسب بنفسك كمَّ الحسنات، فقد تعبت من حسابها وأرقامها الفلكية، في مقابل (مشوار) بسيط تقضي فيه حاجة أخيك !
أنا لا أنكر إطلاقا أهمية طقوس الإسلام وفروضه التي ما شرعها الله إلا لتنقية الفرد مما علق به من دنس الرغبات الحيوانية كي يتسامى إلى مرحلة الإنسان في عملية تحويل نوعية من مخلوق غرائزي كالأنعام إلى مخلوق راق يقترب من مصاف الملائكة .. ولكنني أعيب أن نمسك بتلابيب تلك الطقوس ونجعلها وحدها أساسا للدين، ثم نكتفي بها من منطلق : طالما أني أمارسها فقد ضمن الجنة، وليذهب الجميع إلى الجحيم، والانعزال عن العالم وتركه يموج بكل الشرور وأكتفي بصلاتي وعباداتي !
قل لي : أنا كإنسان ماذا أفدت من صيامك وقيامك وتلاوتك وتعبدك وحجك وأنت سارق ميراث أختك، وآكل مال اليتيم، وتشهد الزور لترضي رئيسك في العمل، وحين أحتاجك تغلق بابك في وجهي متجهما عابسا لتتفرغ لقيام الليل !
أين أنت من الدين وأنت تهدر الوقت بذكاء منقطع النظير وأنت تكره العمل ومن في العمل وتؤذي جيرانك ؟
لماذا قال الرسول حين سئل عن المرأة التي حبست هرة أنها في النار، رغم أنها لم تقصر في الشعائر والعبادات، ولماذا قال عن المرأة التي يؤذي جيرانها بلسانها أنها في النار رغم أنها أيضا صوّامة قوّامة مصلِّية ؟ في مقابل الرجل الذي دخل الجنة لأنه سقي كلبا ؟
وفي داخل البيت أيضا .. ماذا يفعل الرجل بزوجته الصوامة القوامة التي تهمله وتهمل طلباته وهي لا تفلح إلا في الحسبنة على زوجها، ذلك الزوج الذي لم ير منها غير طقوس تشير إلى أنها متدينة، وفي حقيقتها أبعد ما تكون عن قيم الإنسانية ! امرأة بلسان ناري ووجه لا يعلم شيئا عن الابتسام ! تعامله أسوا معاملة فيعيش في نكد متصل مع زوجة يقال عنها متدينة ! هل ضمنت الجنة بطقوسها واجتنبت النار بعبوسها ؟
لماذا يقولون : ” في الغرب إسلام بلا مسلمين، ولدينا مسلمون بلا إسلام ؟
القضية أن الإسلام ما جاء إلا ليربي الضمير الداخلي لدى المسلم، ذلك الذي يجعل أرقى المخلوقات مراتب وأعلاهم منزلة ( أعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك ) رقابة ذاتية علي الانسان من نفسه، ومن يتعبد فقط وتكون أخلاقه سيئة فهو ناقص الإيمان ، أين نحن الآن من هذا ؟
لماذا قال روجيه غارودي :” الحمد لله أني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين” ؟
الأسئلة لا تنتهي وعلامات الاستفهام هي المسيطرة على واقع غريب لخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وهي لا تأمر ولا تنهي، بل اكتفت بالشجب والامتعاض والأنامالية !
دفعني البحث إلى تأملات كثيرة منها : لماذا بقيت آثار قدماء المصريين ولم يقم الفاتح العظيم عمرو بن العاص بهدم أبي الهول أو الأهرامات أو تماثيل آلهة قدماء المصريين ؟
تلك التأملات أخذتني إلى مسار أشبع فضولي ينطلق من تلك القضية :
لو بحثتم عن قيم الإسلام لوجدتموها عند غير المسلمين ! ولهذا الموضوع قصة :
كنت أراهن أحد أصدقائي منذ أيام أن يجد في الغرب قيمة إنسانية لم يدعُ إليها الإسلام، وكانت النتيجة أنني كسبت الرهان .. ولم يجد، فكل القيم الجميلة التي نعجب بها عند غيرنا ما هي إلا قيم إنسانية خالصة، ففي الغرب تجد الرحمة والإنسانية والعدل والمساواة وحب العمل والإخلاص في العمل واحترام الوقت والنزاهة ، وحب الخير، والصدق الإيثار.. كلها قيم إسلامية وكلها مما حثنا عليه ديننا والشواهد أكثر من أن تحصى .
قد يعترض البعض على كلامي بأن الغرب به الكثير من المشكلات والأمراض الاجتماعية التي لا يخلو منها مجتمع إسلامي ، وأنا أوافقه ،ولكنها موجودة أيضا في مجتمعنا الإسلامي حاليا، ولكن هذه هي القيم السائدة لديه كانت سببا فيما وصلوا إليه من تقدم، مقارنة بتخلفنا نحن المسلمين عن ركب الحضارة !
وخير دليل على كلامي ما عرف بأعظم محاكمة في التاريخ، وقد حدثت في محكمة سمرقند حين استقر الأمر للمسلمين بعد فتح سمرقند، ولكن أحد أبناء سمرقند قد اشتكى للقاضي المسلم بأن الأمير قتيبة اجتاح المدينة بجيشه، ولم يدعُهم إلى الإسلام، ويمهلهم حتى ينظروا في أمرهم !
فتعلل الأمير قتيبة بأن الحرب خدعة، وكان لابد من مباغتة أهلها حتى يتم النصر.
قال القاضي:. يا قتيبة، ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين، واجتناب الغدر، وإقامة العدل.
وجاء حكم القاضي بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تُترك الدكاكين والدور، وألا يبقى في سمرقند أحدٌ، على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك !
لم يصدق الكهنة وأهل البلد ما شاهدوه وسمعوه، ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، وسرعان ما قد نُفِّذَ الحكم، وانسحب الجيش ! ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم من الدهشة، حتى خرجوا أفواجًا وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
عرفتم لماذا لا يعنيهم الإسلام الطقوسي ويخشون الإسلام الآخر ؟
القضية شائكة ولها فروع كثيرة متشابكة، والحديث فيهالا يطول، ولكنها تصب في محيط واحد:
لا تحدثني عن الإسلام بل دعني أراه في سلوكك .. الإسلام ما انتشر إلا بقيمه ولن يعود إلى سابق عهده إلا بتلك القيم، ولو غرست فينا قيم الإسلام ما أصبحنا في الحضيض .