بقلم الدكتور/علي عبدالظاهر الضيف
في بلاد واق الواق حيث تجد الشاي له مذاق ويؤخذ عن طريق الفم بكل حب واشتياق، وأحيانا عن طريق كرمشة البريزة مع مقولة مساء الفل يا رفاق.
كان الكلب ركس وهو كلب موهوب ابن كلب مشهور مدرب من كلاب أمن الحدود يجلس في كمين بإحدى المناطق .. وإذ بمسؤول كبير يعبر بسيارته الرسمية الفخمة ذلك الحاجز الأمني، وهذا المسؤول لديه حصانة، فضلاً عن أنه من النوع الذي يتحدث عنه أبناؤه بالعبارة الشهيرة : (أنت مش عارف أنا ابن مين؟ )
وبالتالي فهو غير خاضع للتفتيش في بلاد واق الواق التي يمشي بداخلها أصحاب الحصانة بلا قيد أو أوراق !
أشار المسؤول بيده التي تحمل السيجار الكوبي الضخم الفخم والتي يزين خنصرها خاتم ذو فص كريم، محييا الضباط ورجال الأمن الذين عرفوه من دخان السيجار ، وفِي ثوان معدودة كانت الحواجز والمتاريس تزاح أمام المسؤول ذي الحصانة .
الكلب المدرب (الدقرم) ابن الناصحة حرك أنفه في حركة دائرية راداريه فأصدر نباحا هادرا أسمع شمال المنطقة وجنوبها، وشارعين مما جاورها من شرقها وغربها، مشيرا إلى أن سيارة صاحب الحصانة تحمل مخدرات !
بل حاول الهجوم على سيارة صاحب الحصانة ،متجاهلا ما له من (برستيچ) ومكانة !
فهم رجال الأمن ما الذي يدور برأس ذلك الكائن ابن ستين كلب .. نظروا إلى بعضهم بعضا بوجوه يملؤها الخوف والتردد، ولكن لم يجرؤ أحدهم أن يتقدم خطوة ليعترض طريق السيد المسؤول، وتظاهر قائد الكمين بأنه مشغول وغير مسؤول !
ظل الكلب ينبح والجميع في ذهول وقال القائد في نفسه ماذا يفعل هذا الكلب المخبول ؟ سيضعنا في موقف لا نحسد عليه مع السيد المسؤول !
أبى الكلب إلا أن يستمر في نباحه المتواصل، ورغم محاولات العسكري المستميتة لكبح جماحه وإبعاده عن السيارة، فقد كان مُصرا على الهجوم، وأفلت من السلسلة بحركة خاطفة لينقص على السيارة، وبحركات كلبية مدروسة عثر البطل على مكان المخدرات .. وأخذ يلهث من شدة المعاناة والصراع مع السلسلة وحاملها ولمعت في عينه بهجة الانتصار .
“طيب يا سيدي شكرًا لك” بصوت الفنان حسن حسني ، قالها قائد الكمين وهو يأمر بسحب الكلب .
ثم أصدر أوامره الصارمة التي تتناسب وشدة الموقف بمعاقبة الجندي عوضين الذي أفلت الكلب منه وتسبب في إحراجه امام السيد المسؤول صاحب الحصانة وما تلاها من مكانة …!
هذا الكلب كائن فطري تحرك بالغريزة لا يعلم أن للقانون وجوها أخرى ولا يفرق بين صاحب حصانة وصاحب ديون ولا يميز بين مسؤول ودلدول ؛ فحواسه مدربة على اكتشاف الممنوع، ولا علاقة له بالكوسة وشرش الزلوع .
ذكرنا بقصةالحارث بن صعصعة الذي كان له أصحاب لا يفارقهم…
وكان شديد المحبة لهم، وكان للحارث كلبٌ ربّاه …فخرج الحارث في بعض متنزَّهاته ومعه ندماؤه …وتخلَّف عنهم واحد من أصحابه لم يذهب معهم …
فلما بعد الحارث عن منزله، جاء نديمه إلى (أمينة) زوجة الحارث …فأقام عندها يأكل ويشرب ثم عصى الله تعالى فيها وخان صاحبه ومارس الفحشاء مع زوجته
ولما رأى الكلب ذلك وثب عليهما وقتلهما …
فلما رجع الحارث إلى منزله ونظر إلى زوجته وصاحبه الخائن، وكلبه الوفي بجواره ، وقف متألما وأنشأ يقول:
عن كلبه :
ومازال يرعى ذِمَّتي ويحوطني ويحفظ عرضي والخليل يخونُ
فوا عجبا للخلِّ يهتك حُرمتـي
ويا عجباً للكلب كيف يصونُ …؟
هذا الكلب لا يعرف إلا الوفاء لأرضه التي يعيش عليها ، الوفاء لصاحبه الذي يطعمه ويشربه ، الوفاء لعمله المكلف به.
باختصار .. لا يعرف إلا خدمة الوطن !
هذا الكلب مقامه أعلى من كثير ممن يرفعون عقيرتهم بحب الوطن، ويتناشدون بالتفاني لخدمته ويرفعون الشعارات الرنانة ذات الوقع المحبب إلى النفس الذي يثير القشعريرة الباردة حين سماعها، فتشعر معهم أن الوطن في أيد أمينة .. وأمينة باعت شرفها فاستحقت أن يفترسها الكلب مع صاحبها !
ما يشق على النفس أن من يغار على الوطن ومصلحته هو كائن لا يعرف المداراة ولم يمد يده لينال من الأموال وشرب الشاي (المكرمش)
ما يؤلم النفس أن الكلب أوفى من البعض وأطهر ويقوم بواجبه على أكمل وجه مقارنة ببني البشر الذين يضعون أصحاب الحصانة فوق ميزان القانون فتختل كفته وتنزل على رأس العسكري المسكين الذي يعاقب لأنه فقد السيطرة على من يغار على وطنه ، فخاف الكلب على وطنه ولم يدر بخلده تلك الحسابات الأخرى !