سوف تلهو بنا الحياة وتسخر، هكذا كان يردد الأستاذ محسوب في خلده، كان هذا بيته المفضل الذي يردده من القصيدة، في الليالي الطويلة دون رفيق، فقد فقد الجميع، حتى ابنه المهاجر منذ زمن بعيد أصبحت كل علاقته به أنه يرسل له مبلغ من المال كل عام، تلك الشرفة التي أصبحت نافذته علىٰ العالم الآخر كالمرناة، من حقه المشاهدة فقط، من حقه ان يستمع إلى ضجيج المارة بصراخهم وضحكاتهم، وأحيانا يتفاعل معهم بالابتسامة العريضة وأحيانا بالبكاء، أصبح عكازه هو الرفيق الصامت، مرت عشر سنوات علىٰ تقاعده عن وظيفته رحلت خلالها الزوجة والأصدقاء، لم يتبق له سوىٰ حوائط الشقة الصلبة، اليوم يغادرها قاصدا عيادة التأمين الصحي لشعوره ببعض من الدوار أو هكذا أراد أن يظن، دخل المبنى بخطىٰ بطيئة حذرة من الزحام، وبرغم صعوبة الحشد إلا انه كان سعيدًا بالحركة، نعم إنهم بشر يستطيع التحاور معهم قدر ما يستطيع، وقف في طابور الأرشيف غير مكترث بطوله حتى حل دوره، قدم بطاقته للموظفة والتي بدورها سألته عن العيادة التي يريدها، تلعثم في الإجابة وتردد حتى استطرد قائلا : العظام ! نظرت له الموظفة نظرة حانقة وقامت بختم البطاقة بقوة وكأنها تصفعه ولم تمدها إليه، مد يده بصعوبة وأخذها قبل دفعه من الخلف ليتنحى جانبا، ارتكز على عكازه وعينيه تتجولان بساحة العيادة حتى اقتنص مقعدا خاليا، توجه الأستاذ محسوب ليترك جسده على المقعد، وهو يتلصص النظر لمن حوله، أطلق لخلده العنان وتذكر زحام المدرسة أيام الصبا، وكيف كان يلهو ويعدو ويركض مع زملائه، أين هم جميعا الآن ! علهم يجلسون مثلي الآن يتذكرون_ ربما رحل أغلبهم من الدنيا وبقيت أنا أناضل في فراغ قاس _ لم يحذرني أحد يوما من الشيخوخة والوحدة وجفاء الحياة، قهقه الأستاذ محسوب بصوت مسموع حين تذكر شقاوته طفلا علىٰ عجوز من الجيران، تمنى لو يتشاقى عليه طفلٌ كلَّ يوم، كي يملأ عليه أيامه، استشعر الحرج حين سمع ضحكات السيدة التي تجلس بجانبه، حدق النظر بها وجدها امرأة يبدو عليها أنها خمسينية، التقط الخيط ليحاورها : معذرة يا ابنتي، ردت عليه السيدة في خجل : لا عليك يا أستاذ ثم اعتذرت له عن ضحكتها الساخرة واستطردت : يبدو أنك تذكرت موقفًا ضاحكًا! : نعم يا ابنتي فحياتي الآن كتاب أستعيد قراءته بأفراحه وأتراحه فهذا ما تبقىٰ لي، استكملا الحوار من هنا وهناك حتى نهضت السيدة ورحلت، وحل غيرها الكثيرين لكن الأستاذ محسوب ظل مكانه لا ينهض، حاورهم جميعا حتى انتهى اليوم فلم يدرك ذلك إلا عندما ربت على كتفه رجل الأمن : انتهى اليوم يا أستاذ محسوب وعلينا إغلاق العيادة ونراك غدا ككل يوم على خير!