كتب – نشـأت النادي
بعد العديد من سنوات العقوبات السياسية والاقتصادية التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الأوربيون على طهران جاء اليوم الذي نسمع فيه جملة “الخليج الفارسي” على لسان مسؤول أمريكي، ولم لا وقد وقعت الاتفاقية النووية بين الطرفين وأصبحت طهران طرفا رئيسا في المعادلة ولاعبا أساسيا في المنطقة التي تعد محط أنظار الجميع ومطمعهم، إنها منطقة الشرق الأوسط ذات الثقل السياسي والاقتصادي والتاريخي والديني عالميا.
لم تصل إيران إلى هذه الأماكن وإلى هذه المكانة بجهودها وحدها ولم تنتشر أذرعها الأخطبوطية لمعظم دول الشرق الأوسط بمساعدتها فقط ولم تنجو من عقوبات وعزلة دولية بمهاراتها الفردية، بل ساعدها على ذلك جيرانها الخليجيون الذين تربصت بهم وانتظرت لهم الخطأ تلو الخطأ حتى تتمكن منهم في نهاية المطاف.
من منا يتذكر حرب الخليج الأولى “حرب الثمانية أعوام” التي خاضها أسد الفرات والسد الشرقي للعرب الرئيس العراقي الراحل/ صدام حسين (رحمه الله) والذي جرع فيها السم الزعاف لطهران وقيادتها السياسية والدينية، إنها الحرب التي ما كان لينتصر فيها صدام وحده بل جاء النصر فيها بمساعدة خليجية ومصرية توج التعاون بينهم فيها نصرا عربيا أفضى إلى انسحاب طهران من جزر الفاو وشط العرب بعد سنوات من الحرب الضروس في مدخل الخليج العربي.
من بعد ذلك التاريخ الذهبي للخليج العربي بدأ التخطيط الفارسي لزرع خلاياه النائمة في العديد من الدول العربية، فظهر حزب الله في لبنان وتكونت مجموعات عراقية من حزب الدعوة وغيره في طهران، وكانت سوريا نقطة ارتكاز رئيسية وحلقة وصل بين طهران ومجموعاتها النائمة في العالم العربي وخصوصا مجموعات دول الخليج في شرق السعودية وفي الكويت والامارات، وبالتوازي مع هذا النهج بدأ التراجع الخليجي الذاتي فحرب الكويت والارتماء في الحضن الغربي أضعف دول الخليج اقتصاديا وعسكريا، وتصدع السد الشرقي بسبب عدم اتفاق وعدم توفيق بين أنظمة الخليج والنظام العراقي.
في الحادي عشر من سبتمبر عام 20011م وبعد أن اشتد عود المجموعات الجهادية التي صنعتها السعودية وأمريكا لمحاربة القوات الروسية في أفغانستان واستطاعت بالفعل اخراجها منها وقد أطلقت على نفسها اسم “تنظيم القاعدة” قامت هذه المجموعات بهجمات “منهاتن” وأسقطت الهيبة الأمريكية باسقاط برجي التجارة العالميين بنيويورك، فتهيأت الفرصة للهجمة الصليبية الأمريكية كما سماها “جورج بوش الابن” فكانت الحرب على أفغانستان لمعاقبة حركة طالبان على ايوائها لقادة التنظيم، وكان الهدف الثاني هو القضاء على السد الشرقي للعرب بعد أن قلمت أظافره في حرب الكويت، ولعل هذا هو أكبر خطأ خليجي حتى الآن فقصف واحتلال بغداد كان من مطارات خليجية وأرض خليجية ومياه خليجية وانهيار السد الشرقي أدى الى تدفق الطوفان الشيعي في المنطقة العربية بأياد خليجية.
في عام 2003 م وبعد انهيار نظام صدام حسين بدأ الحديث عن برنامج تخصيب اليورانيوم الايراني يزداد مع ازدياد النفوذ والمد الايراني في المنطقة، فاغتيال رفيق الحريري في لبنان سنة 2005 م ،ومن ثم حرب حزب الله اللبناني مع اسرائيل في عام 2006م هي من تداعيات هذا المد وهذا النفوذ كما أن حرب الحوثيين لنظام علي عبد الله صالح واقتحامهم الحدود السعودية عام 2008م علامة واضحة على تنامي بسط الهيمنة الايرانية على المنطقة، بالاضافة إلى القلاقل المتعمدة في البحرين بين الفينة والأخرى واطلاق التصريحات التي تزعم تبعيتها لإيران، ويا ليت تلك الأحداث المتعاقبة أيقظت أنظمة الخليج للإعتماد على نفسها في تكوين قوة محلية قادرة على التصدي لهذا الانتشار العسكري والسياسي والفكري، فقوات درع الجزيرة لم تكن بالمرونة والقوة المطلوبة ولعل الوضع بات أكبر من قدرتها النظامية المحجمة والمكبلة وأصبح يحتاج لمليشيات مدربة قادرة على التعامل مع حروب عصابات لمواجهة هذه الأخطار بنفس الفكر والنهج.
في نهاية العقد الأول من القرن الحالي كانت ما تسمى بالأنظمة الجمهورية في بعض الجمهوريات العربية قد شاخت وذبلت بعد أن أذاقت شعوبها ويلات الجوع والخوف وانشغلت بتجديد جلدها بعمليات توريث ممجوجة، ففي سوريا حدثت عملية توريث مقننة، وفي مصر محاولة توريث ممنهجة، وفي اليمن النية مبيتة ،وفي ليبيا الورثة سدنة النظام وهم في سدة الحكم ،أما تونس فقد كبلت بفكر علماني ذاتي أبعد الناس عن قيمهم لدرجة مملة وكانت تداعيات ذلك ثورات اشتعلت في هذه الجمهوريات لتعلن عن وضع جديد يهدد عروش الأنظمة الخليجية الأمر الذي أدى إلى انشغالهم عن هذا المد وخشيتهم من مد من نوع آخر وهو المد الديمقراطي، وخصوصا في الدولة المحورية والمركزية التي نجحت فيها الثورة إلى إحداث تغيير ايجابي وتمكين الشعب من اختيار رئيس منتخب يعد ثورة بيضاء، فقامت أنظمة الخليج بردود فعل عكسية تجاه هذه الأنظمة الوليدة في مصر وليبيا واليمن خوفا من تصدير التجربة الديمقراطية وتداعياتها عليها.
إن حركات التصحيح التي قامت بها دول الخليج في جمهوريات الربيع العربي باتت عبئا ثقيلا عليها زاد من ضغوط المطامع الإيرانية فيها وولد تنظيمات متطرفة في العديد من الأماكن والبقع الحيوية، فالحوثيون اجتاحوا العاصمة اليمنية وسيطروا على العديد من محافظات اليمن بعد غض الطرف السعودي عن نظام على عبد الله صالح الذي سعى لإفشال الثورة اليمنية فاغتنم الحوثيون الوضع لصالحهم، وتنظيم الدولة الذي غرس بذوره النظام السعودي في العراق ليصد المد الشيعي اصبح مصدر تهديد لها على حدودها الشمالية الشرقية، وباتت المملكة محاطة بالكثير من المخاطر التي تدق ابوابها ليل نهار بعد أن تخلصت ممن كان يقول أمام العالم لبيك يا سوريا فيما هي تبحث عمن يخلص الشعب السوري من نظام طائفي!
أما الإمارات العربية التي احتلت جزرها منذ أواخر سبعينات القرن الماضي فلم تتخذ خطوة واحدة في سبيل تحرير تلك الجزر بعد أن تغيرت هويتها وطمست ملامحها العربية وأصبح وجه الحياة فيها فارسي الهوى، وقد سعت الإمارات إلى الهروب للأمام فانشغلت بفعاليات عالمية لتثبت أنها على الخريطة العالمية فتنظيم المعارض والمسابقات والمهرجانات أصبح ديدنها وشغلها الشاغل، ومساعيها في ليبيا باءت بالفشل حتى الآن ولا أدري ما الدافع الاستراتيجي من هذه المساعي هل هي لصد المد الإيراني عنها أم هو بروتوكول تعاون مع النظام المصري الحالي وهو النظام الذي أصبح مشغولا بمحاربة جماعات متطرفة في سيناء ومطالب بتأمين حدوده الغربية ومطالب بالمساعدة في نشر جنود على الحدود الشمالية والجنوبية للمملكة السعودية وهي مطالب فوق احتماله.
الكويت والبحرين دولتان على المحك وموقفمها حساس للغاية لطبيعة التركيبة السكانية فيهما ولقربهما من السواحل الايرانية، لذلك فإنهما أضعف الشطآن أمام موجات المد الإيرانية وربما تكونان الأسرع في الهدل والجرف مع تسارع هذه الموجات.
إن الأنظمة الخليجية باتت مكشوفة الظهر بعد التطورات الأخيرة ولعل التلميح الأمريكي الأخير “بفارسية الخليج”هو مؤشر على قرب ابرام اتفاق أمريكي أوروبي أيراني حول الملف النووي الإيراني وهذا يتطلب من الأنظمة الخليجية سرعة لملمة الأوضاع المبعثرة والاستعداد لمواجة طويلة الأمد لا تعتمد فيها على قوى خارجية بقدر اعتمادها على أنفسها في درأ هذا الخطر عنها، ولعل الهرولة نحو تركيا في هذا التوقيت هي خطوة في الاتجاه الصحيح لأن الحديقة الخلفية لدول الخليج باتت مشغولة بصراعات داخلية تحتم عليها استتباب أمنها أولا قبل التفكير في مساعدة الآخرين.
الآن بدأت حرب الخليج الأخيرة التي تع بالنسية لدول الخليج حرب وجود أمام مطامع فارسية فجة وحقد طائفي لم نشهد له مثيل لذلك فيداية الحرب معلومة لكن النهاية ليست بيد أحد.