بقلم العالم الموسوعي بروفيسور د محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
متابعة دكتور علاء ثابت مسلم
عبقرية المكان في شارع النبي دانيال بالإسكندرية….!!!
يستعيرصاحبنا هذا المصطلح من العلامة القدير الاستاذ الدكتور (( جمال حمدان )) حينما يتحدث عن عبقرية المكان…..لما لهذا المكان من عبق ثقافي يندر في كل أرجاء الدنيا.
بعد أن يحتسي قهوته المفضلة في (( تريانون )) عصر كل يوم , كان عليه أن يمرفي شارع النبي دانيال الذي يبدأ جنوباً من محطة الرمل حتى شمالاً محطة مصر , وكان جنوب الشارع أغنى من شماله الذي يكتظ بالفقراء .
كان ومازال المركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية بالقرب من بداية الشارع حيث محطة مصر , ومسجد سيدي عبد الرازق الذي كان صاحبنا يحضر فيه بعض جلسات الذكر للطريقة البرهانية , بل كان حريصاً على صلاة المغرب فيه قبيل بدء دروس اللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي المجاور للمسجد ,بل كان ينتفع صاحبنا من وجود كتب قديمة مستعملة تتناسب مع ميزانيته ولاسيما وقد كان يلتهم كل ما يبتاع من تلك الأوراق الصفراء التي تنبعث من بينها رائحة التاريخ من دول الماضي في كف تجربة القدر .
ولشارع النبي دنيال عبق أخر يدل على عبقرية المكان والزمان والتجربة والأصالة والعراقة , تلك البصمات الإبداعية كانت لها الأثر في تكوين معالم الشخصية الثقافية لصاحبنا .
يشق شارع النبي دانيال وسط مدينة عروس البحر من ميدان محطة مصر إلى ميدان محطة الرمل، ويعود تاريخه كما يقول علماء الاثار الى تاريخ نشأة المدينة عندما عهد الإسكندر الأكبر إلى مهندسه اليوناني «دينو قراطيس» بتخطيط هذه المدينة حيث وضع لها تخطيطا أشبه بقطعة الشطرنج وهو عبارة عن شارعين رئيسيين متقاطعين بزاوية قائمة تحيط بهما شوارع أخرى فرعية تتوازى مع كل من الشارعين. وكان شارع النبي دانيال يحده من الشمال بوابة القمر ومن الجنوب بوابة الشمس. ويقول الدكتور عزت قادوس أستاذ الأثار اليونانية الرومانية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية : كان شارع النبي دانيال هو الطريق الرئيسي بالإسكندرية القديمة وكان يطلق عليه اسم «الكاردو دي كومانوس» وكان يضم العديد من المعابد الرومانية ومن بعدها المعابد اليهودية واستمرت أهميته حتى العصور الإسلامية ثم تغير إسمه بعد بناء مسجد النبي دانيال الذي كان في الأصل معبدا يهوديا سمي على إسم النبي دانيال أحد المبشرين باليهودية. وقد أدى وجود العديد من الآثار الرومانية تحت المسجد الى الاعتقاد بأن مقبرة الإسكندر الأكبر موجودة أسفله ودعم هذه الفكرة وجود الجبانة الملكية في تقاطع شارع النبي دانيال مع شارع فؤاد إلا أنه بعد البحث والتنقيب لم يكتشف أي شيء يخص الاسكندر ولكن تم اكتشاف أنفاق كبيرة من العصر الروماني متصلة ببعضها وكانت مصممة لهروب الملك عند قيام الثورات التي كان يقوم بها أهل الاسكندرية القديمة بحيث يهرب الى خارج البلاد وكان منها ما يؤدي الى البحر المتوسط مباشرة. وقد وصف المؤرخ الإسلامي المقريزي هذه الأنفاق بأنها من الاتساع والارتفاع أن يسير فيها الفارس ممتطيا جواده رافعا سيفه وهو ما يقدر بثلاثة أمتار.
ويعد مسجد النبي دانيال من أشهر وأقدم المساجد بالإسكندرية. وهو مزار للعديد من السائحين خاصة الآسيويين الذين يحرصون على زيارة الضريح الموجود أسفل المسجد الذي يقال إنه للنبي دانيال. وهناك رواية تقول إنه عندما فتحت الاسكندرية على يد عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عثر الجنود على المكان وعليه أقفال من حديد تحيط بحوض من الرخام الأخضر. وعند فتحه وجدوا فيه هيكل لرجل ليس على هيئة أهل العصر، فأنفه طويل ويده طويلة وعليه أكفان مرصعة بالذهب. فأبلغوا عمر بن الخطاب بذلك فسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقال له: هذا نبي الله دانيال. فأمر عمر بتحصين قبره حتى لا يمسه اللصوص. إلا أن عددا من الاثريين يشككون في هذه الرواية ويؤكدون أن الضريح الموجود بالمسجد على عمق حوالي خمسة أمتار هو للشيخ محمد دانيال الموصلي وهو رجل صالح جاء إلى الإسكندرية في نهاية القرن الثامن الهجري وقام بتدريس أصول الدين وعلم الفرائض على النهج الشافعي وظل بها حتى وفاته سنة 810 هـ ودفن بالمسجد، الذي يعود تاريخ بناؤه الى القرن الثاني عشر الهجري. ولعل أكثر ما يميز شارع النبي دانيال هو احتواؤه للأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام في سماحة حتى أن البعض يرى أنه احد شهود حرية العقيدة في عروس البحر المتوسط. فإلى جانب مسجد النبي دانيال ومسجد سيدي عبد الرازق وهو ولي من أولياء الله الصالحين وكان يعطي دروسا في الدين، يوجد أيضا المعبد اليهودي الذي تتردد عليه الجالية اليهودية بالاسكندرية. وعلى الجانب الآخر من الشارع توجد الكنيسة المرقسية أقدم كنيسة في مصر وأفريقيا والتي بناها القديس مرقس في القرن الأول الميلادي عام 43م وتوجد بها رأسه. وقد بات هذا الشارع من أكثر الشوارع حيوية في الإسكندرية بسبب وجود المحال التجارية التي تبيع كل شيء على جانبيه بدءا من الملابس والاحذية انتهاء بالكتب والاجهزة الكهربائية. كما يوجد به بعض الابنية الهامة من بينها مبنى جريدة «الاهرام» في الاسكندرية والمعبد اليهودي الذي يتوسط الشارع والمركز الثقافي الفرنسي الذي أنشيء عام 1886. وبالرغم من إزدحام الشارع الشديد الا انه كان دائما محط إهتمام السفراء الاجانب والكتاب الفرنسيين والمصريين ومن أشهرهم ميشال تورنيه وبرنارد نويل وجمال الغيطاني ومحمد سلماوي وادوارد خراط وصنع الله ابراهيم وعلاء الأسواني .
ويستمد شارع النبي دانيال أهميته أيضا من وجوده في غرب منطقة كوم الدكة بما فيها من حمامات رومانية والمسرح الروماني الذي كان بمثابة قاعة استماع كبرى تعقد به أهم الخطب والاجتماعات السياسية والمناقشات العلمية ويعود تاريخه الى القرن الثاني الميلادي وهو الوحيد من نوعه في مصر. وقد تم الكشف حديثا عن أكثر من 10 مدرجات أصغر حجما حول هذا المدرج تعد بمثابة قاعات للدروس العلمية وهي عبارة عن 3 صفوف من المقاعد علي شكل حرف «U» بالانجليزية وعند حافة الانحناء يوجد مقعد المدرس. ويعتبر شارع النبي دانيال من أشهر المحطات الثقافية في الاسكندرية ليس بسبب كثرة عدد المكتبات فيه فقط، ولكن أيضا بسبب باعة الكتب الذين يصطفون على جوانب الشارع في أكشاك خصصتها لهم المحافظة بعد أن كانوا يتناثرون على الارصفة يبيعون كل أنواع الكتب العربية والاجنبية وفي مختلف التخصصات إلى جانب المجلات والمجلدات القديمة والحديثة. ساعدهم على ذلك وجود العديد من الجنسيات في المدينة ولهذا فقد ذاعت شهرة الشارع في مجال بيع الكتب في كل أنحاء العالم وعرف بـ«شارع الكتب».
ويقول عم عرفان من أشهر باعة الكتب في شارع النبي دانيال على الرصيف بجوارمسجد سيدي عبد الرازق: زبائننا من كل لون، حيث يأتي الينا السائحون فيجدون ضالتهم بأسعار زهيدة جدا، الى جانب عدد من العلماء والمثقفين وكان أشهرهم الاديب الراحل نجيب محفوظ الذي كان يأتي الينا في كل مرة يزور فيها الاسكندرية في فصل الصيف، ويرى عم عرفان أن كل ما يتردد من أن الشارع يبتلع الفتيات الجميلات مجرد خرافات صدقها الناس بعد أن رددوها وكل ما يحدث هو انهيارات متكررة في الشارع وهي ظاهرة تتكرر في العديد من شوارع الاسكندرية. ويضيف: «لقد عايشت قصة اختفاء العروس التي كانت تسير بجوار خطيبها ثم اختفت فجأة وفشلت كل محاولات البحث عنها بواسطة الضفادع البشرية. والسبب أن الشارع حدث به إنهيار فسقطت الفتاة في أعماقه وبسبب وجود أنفاق الصرف الصحي جرفها التيار إلى البحر ولم نجد لها أي أثر، لكنها كانت الحادثة الوحيدة من نوعها، أما ما عدا ذلك من حوادث فهي مجرد شائعات .
وترجع أهمية هذا الشارع العتيق إلى توجيه أنظارصاحبنا ليدرس (( الأنجيل والتوراة والقرأن )) لإحتواء هذا الشارع على أثار يهودية ومسيحية وإسلامية فضلا على انه بدأ فيه تعلم اللغة الفرنسية……!!!
كيف تعلم تلك اللغة التي لم يخطب لها وداً لا من قريب ولا من بعيد…..؟
هذا ما سوف نعرفه في الحلقة القادمة….!!!
انتظرونا
دكتور / محمد حسن كامل
رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب