استدار إلى والدته يحدق بها في عتاب، اللوعة والتوسل طغيا على القسوة والغضب فى عينيها، وكأنها تنفست الصعداء لدخول ملك في الوقت المناسب
أطلق تنهيدة طويلة، يبدو أننا سوف نظل شعوبًا متخلفة للأبد، وكيف سنتقدم ما دمنا نفكر بقلوبنا؟ دائمًا تتغلب عواطفنا فوق كل فكر ومنطق.. ما الذى يجب عليه أن يفعله الآن ؟
كرجل شرقى غاضب جُرح كبرياؤه ودٌهست كرامته عليه أن يثأر لنفسه بكل السبل، شرقيته تدعوه ليترك كل شيء ويرحل، ولكن مِمَن سوف ينتقم ويثأر؟ من والدته.. من نفسه.. من ملك أم من حبيبته التى تنتظر زواجه منها على أحر من الجمر ؟!
بالمقابل هناك عشر سنوات أمضاها في بلاد النور، بين شعوب اعتادت أن تحصل على كل شيء تريده مهما بدا مستحيلًا، بلاد ملكت لأنها تفكر بالعقل، وهذا العقل هو ما يدعوه إلى التريث.. يؤكد له بأن هناك حل آخر.. فهو إذا ما تنازل عن ثروته في لحظة كبرياء مجنونة كهذه التى يعيشها الآن.. فسوف يكون الخاسر الأول.. سوف يخسر حتى حبيبته التى يفعل كل هذا من أجل الفوز بها.. تلك التى تركها على وعد بأن يعود ثريًا ليتزوجها بعد طول انتظار
سوزان، حبيبته المرفهة التى اعتادت الحصول على كل ما تريده، كيف سيمكنها العيش معه براتبه الضئيل كموظف بسيط في الشركة ؟
كان يأمل أن يبيع نصيبه في أملاكه هنا ويعود إليها ليفتتحا شركتهما الخاصة في أمريكا، شركة تعود كل أرباحها إليه.. عندها فقط سوف يستطيع أن يحقق لها السعادة والاستقرار الذى طالما حلمت به وبحثت عنه، سوف يشترى لها المنزل الكبير والسيارة الفارهة ويأخذها في جولة حول العالم ولو مرة واحدة على الأقل كل عام
تجولت نظراته ما بين ملك التى حملت أكواب العصير ووقفت تحدق بوجهه في حيرة أقرب للبلاهة، ووالدته التى راحت تتطلع إليه في توسل عجزت عن إخفائه، إذا أراد النجاح في عالم كهذا، عالم تحكمه العواطف وحدها، عليه أن يكون مخادعًا، لا سبيل لكسر عناد والدته سوى الخداع، عليه أن يحقق أمنيتها ويتزوج من ملك كما تريد، بالمقابل لن تمانع والدته في تسليمه كل شيء، سوف تمنحه ثروته كاملة، سوف توافق على إنشاء شركة كبيرة كل أوراقها معتمدة باسمه، وسيارة أيضًا بل ربما أكثر من سيارة، ومبالغ كبيرة في البنوك، الأرض أيضًا يجب أن تتنازل له عنها وتكتب معه عقدًا جديدًا يمنحه حرية التصرف فيها.. ستكون ضمانًا للحصول على القروض اللازمة لتوسيع مشروعاته، عندما تشعر والدته بالأمان نحوه سوف تمنحه كل شيء، وهو سوف يمنحها الأمان الذى تريده ولكن بالخداع، يا له من تناقض عجيب !
كل شيء حلم به وخطط له مع سوزان يستطيع تحقيقه بكلمة واحده.. موافق.. كل ما عليه هو أن ينطقها فقط.. فما أن تخرج من شفتيه حتى يصبح كل شيء ملكًا له، وبعدها ينهى كل أعماله هنا ويطلق ملك أيضًا، ويبدأ حياة جديدة مع سوزان في أمريكا، شعر بأنه ولد عاق بالفعل.. ولكنه الحل الوحيد أمامه.. لم تترك له والدته خيارًا آخر
ما زالت والدته تحدق به، يستطيع أن يراها من دون أن يستدير إليها، فهو يراها بعين العقل، العين التى تغفلها بلاده النامية، أطلق تنهيدة طويلة وهو ينظر إلى ملك بطريقة أراد بها توصيل رسالة ذات مغزى إلى والدته
مسكينة ملك، شعر ببعض الشفقة نحوها، لولا إصرار والدته غير المبرر على زواجه منها، ما كانت تعرضت لهذا الألم المزمع أن يكون
جلس من جديد وتناول منها كوب العصير الذى قدمته له وهى تبتسم في حياء لم تستطع مقاومته بعد كلما نظرت إليه، فعلت والدته المثل وهى تلتفت إليه من حين لآخر ونظرة الرجاء لا تفارقها، ربما كانت تبدو صلبة ظاهريًا وتتظاهر بالقسوة و القوة واللامبالاة، لكنه يعلم أن أعماقها تشتعل وتذوب ضعفًا، فهو يعلم جيدًا كم تحبه
ارتشف بعضًا من الكوب بين يديه وتظاهر بالنشوة قائلًا :
– لذيذ حقًا يا ملك، لم أتذوق من قبل مانجو بهذه اللذة، ما اسم الشركة المنتجة له، يبدو طبيعيًا جدًا
ضحكت في سعادة قائلة :
– إنه طبيعى بالفعل، لقد جمعت بعض الحبات من حديقتنا هذا الصباح
كان يعرف إجابتها مسبقًا ولكنه تمادى في تصنع البلاهة قائلًا :
– يا إلهى، أحقًا هذا؟ يبدو أنك ماهرة بالفعل إذًا
يستطيع أن يتخيل السعادة التى كست وجه والدته، ولكنه لن يريحها الآن حتى لا تنكشف لعبته، سوف يتلاعب بهما بعض الوقت، كرامته أيضًا ما زالت ثائرة، كلما فكر في كونه مجبرًا على الزواج منها زادت رغبته في الانتقام منهما معًا، لا وجه والدته المحب المتوسل يشفع لها ولا وجه ملك البريء يحنن قلبه عليها
سوف ينتظر حتى تنضج خطته تمامًا، حتى تشعر والدته بالأمان ويبدو لها أن كل شيء قد حدث تلقائيًا، وكأن موافقته على الزواج منها جاءت عن اقتناع بشخصيتها ومهاراتها وكل ما تراه والدته بأنه حسن فيها، عندها فقط سوف يمسك بكل الخيوط بين يديه ويحرك عرائسه كما يشاء
******
مضت الأيام متلاحقة، كلماته المقتضبة إلى والدته زادت من سخطها نحوه ولكنها لم تتجرأ هذه المرة وتطلب منه الرحيل كما فعلت سابقًا خشية من رحيله بالفعل، نزهاته مع ملك يوم بعد آخر والتى كانت تشجعها في البداية، باتت تثير قلقها الان، خاصة وهى ترى السعادة التى تغمر الفتاة وهى تزداد تعلقًا به.. حركاتها صارت رقصًا وحديثها غنوة لا تنتهى، أهو جاد بالفعل هذه المرة أم أنه يكمل تسليته بقلبها وعواطفها ؟.. متى سيطلب الزواج منها ؟، كل صباح تستيقظ بأمل وليد لكنها ما تلبث أن تدفنه في المساء يائسة
تقلبت في فراشها وقد عصاها النوم لكثرة حيرتها من أمره، طرقات خفيفة نقرت بابها وكأن الطارق يتأكد من كونها مستيقظة قبل ان يجاهر بالطرق فوقه
هتفت وقد راودها الأمل من جديد :
– أدخل، أنا لم أنم بعد
– مساء الخير يا أمى
اعتدلت جالسة وهى ترد تحيته :
– مساء النور يا ولدى
– ابق مستريحة كما أنتِ، أنا لن أزعجك كثيرًا
حدقت به فأردف بوجه متجهم :
– يمكنك أن تحددى موعد زفافى على ملك، إن كنت ما زلت تريدين هذا
تهللت قسماتها وهى تديره إليها وقد استدار لينصرف :
– وأنت يا ولدى، ألا تريد هذا ؟
– لم يعد هذا الأمر يشغلنى يا أمى، سوف أنفذ ما تريدينه حتى لا تتهمينى بالعقوق
– ظننتك تعلقت بها في الفترة الأخيرة
– ملك فتاة رائعة بالفعل، ولكننى سأكون كاذبًا لو أخبرتك بأننى أحببتها بهذه السرعة
ربتت على كتفه في يقين قائلة :
– أعدك بأنك لن تندم أبدًا على زواجك من ملك، سيأتى يومًا تدرك فيه أننى وهبتك كنزًا أغلى من كل ثروتك التى تزوجتها حرصًا عليها
*****
في الأيام التالية اختفت ملك من المنزل تمامًا، لم تعد تشاركهما طعامهما كما كانت تفعل سابقًا، لم يعد يسمع صوتها الرنان يصدح في كل أركان المنزل حتى يصيبه بالصداع أحيانًا، لم تقع عيناه على محياها ولو حتى مصادفة، ترى أيعقل ان تكون قد هربت حتى لا تتزوج منه؟! ومن قال أنها تحبه بالفعل؟ أليست والدته هى من كانت تتحدث بلسانها دائمًا؟ فهو حتى الآن لم يعرف رأى ملك في الزواج منه، برقت عيناه في أمل.. ربما كانت ملك نفسها لا تريده
طابت له الفكرة فراح يسأل والدته في لهفة :
– أمى أين ملك ؟
تأملته والدته في سعادة قائلة :
– يبدو أن خالتك سميرة كانت محقة
نظر إليها في تساؤل فأردفت :
– ها أنت قد بدأت تشتاق إليها حقًا
– أمى …. !!
– لقد أخذتها لتقيم بمنزلها، أنت لن ترها إلا يوم الزفاف
– أما زلتم تفعلون هذه الأشياء حتى يومنا هذا ؟
– كف عن التحدث وكأنك لست واحدًا منا، سنوات الغربة لن تجعلك أمريكيًا، استيقظ يا ولدى، أنت مصرى صعيدى
– لا دخل هنا لأمريكى أو صعيدى، هذه الأشياء أصبحت بالية ويجب التخلص منها
– هذه تقاليدنا وعاداتنا، تربينا عليها منذ الصغر
– أهذا يعنى بأنها لن تذهب معى لشراء فستان الزفاف ؟
لطمت صدرها وهى تصيح في طريقة زادت من سخريته :
– وهل تريد أن تراها بفستان الزفاف قبل زواجك بها؟ إنه فأل شؤم يا ولدى
هز رأسه في هيستيريا بينما أردفت والدته :
– سوف أسافر معها إلى القاهرة بعد يومين لشراء كل ما تحتاجه من هناك، حاولت إقناعها بأن المركز هنا به كل ما تريد ولكنها مصرة على الذهاب إلى القاهرة
– حسنًا، افعلى ما تريدين، على أية حال، فليس معى ما يكفى من نقود لشراء مستلزماتى الخاصة قبل الزفاف
– سوف أملأ حافظتك بالنقود، لا تحمل همًا
نظر إليها وكاد أن يهتف مستنكرًا :
” وكم سوف تستوعب حافظتى ؟!، ما أريده ان يمتلئ بالنقود هو حسابى في البنوك، أما حافظتى فيكفى أن تحتوى على دفتر صغير للشيكات وقلم مذهب لأزين الشيك بتوقيعى من وقت لآخر فأحصل على النقود التى أريدها ”
تنبه من شروده على صوت والدته قائلة :
– أين ذهبت يا ولدى، هل تفكر في ملك ؟
تصنع ابتسامة قائلًا :
– هل ستسافران وحدكما إلى القاهرة، بلا رجل معكما، أهذه هى العادات والتقاليد التى تحدثيننى عنها كل الوقت ؟
– اطمئن، عمك سعد سوف يصحبنا إلى هناك بسيارته
– لو كانت معى سيارتى الخاصة، ما احتجنا لمساعدة الغرباء
– عمك سعد ليس غريبًا، فهو جارنا منذ زمن بعيد
لم يستطع هذه المرة كبح انفعالاته فهتف بها قائلًا :
– أريد سيارة خاصة يا أمى
– حسنًا يا ولدى، بعد الزفاف سوف اطلب من عمك فاروق أن يبحث لك عن سيارة تكون بحالة جيدة وسـ…..
قاطعها في حدة قائلًا :
– كم مرة يجب أن أخبرك بأننى لم أعد طفلًا يا أمى؟ أنت تطعنين رجولتى وكبريائي بحديثك هذا.. لماذا يشترى آخر سيارة سأقودها أنا؟
– لم أقصد يا ولدى، عمك فاروق ميكانيكى سيارات ويعرف السوق جيدًا و…….
– وأنا أيضًا أعرف السيارة التى أريدها جيدًا، سيارة جديدة، أكون أنا أول من يقودها، وأريدها قبل موعد الزفاف
حدقت في عينيه الملتهبة طويلًا قبل أن تهتف مستسلمة :
– حسنًا يا ولدى، كم تريد ؟
ما أن سمعت المبلغ الذى حدده سعرًا لسيارته حتى لطمت صدرها وشهقت مستنكرة قبل أن تهتف به :
– لكن هذا كثير جدًا، بالله كن معقولًا فيما تطلبه
– المظهر الجيد يفتح الأبواب المغلقة يا أمى، هذه السيارة سوف تحدد مركزى الجديد الذى أرجو أن يكون مرموقًا
– نعم يا ولدى، ولكن …..
قاطعها وهو يقبل وجنتيها قائلًا :
– ولكن ماذا يا أغلى الناس عندى؟ يبدو أننى لست غاليًا عندك بما يكفى لتحققى لى أمنية زفاف صغيرة بعد أن حققت لك كل ما تريدين..
تأملته صامتة وما لبثت أن أطلقت تنهيدة طويلة وقالت فى استسلام :
– مبارك يا أغلى ما عندى
ابتسم قائلًا :
– للعروس أم السيارة ؟
ضحكت وهى تلكمه في مرح قائلة :
– للاثنتين معًا أيها الماكر
*****