بقلم / وليد.ع .العايش
_________
لم تكن بقايا غبار ذاك المساء قد غادرت مقاعدها، رغم أن الغسق كان يحتالُ عليها حيناً ، ويحاولُ اغتيالها أحياناً أخرى ، وضعتْ أنثى الحمام ما لديها بثغرِ صغيرها الذي انتظر نهاراً كاملاً، الأمُّ تجلسُ على كرسيّها المُتحرك ، ترْقبُ آخر خيوط الشمس المُجللة بغبرةٍ داكنة ، بجوارها تحطّ الرِحالَ حقيبة كبيرة تحمل الكثير من الذكريات ، لم تشأ أن تبتدئ البكاءَ في هذه اللحظة ، لكن شهيقها كان يُشبه دلو يصعدُ منْ جُبٍّ عميق.
لتوّهِ يُطلُّ حيّان، ابنها الوحيد المُدلل، بوجههِ المائلِ إلى البياض وعينيهِ الزرقاوين, وقامة طويلة كما شجر السنديان, لقدْ صَفّفَ شعرهُ الأشقر, رشّ ماتبقى من عطرٍ في زجاجة تكادُ أن تذرف دمعةً لسببٍ ما على ثيابه التي بدتْ كئيبة الوجه، جلس إلى جوارها بهدوء، ربما خانتّهُ الكلمات، أو أنّه لا يريد صبّ المزيدِ من الزيت على نارٍ ماتزال خامدة.
– أمّاه أرجوكِ لا تبكي … ماهي إلاّ سنة واحدة فقط, سوف أعود بالمال الكافي لتتخلصي من براثن هذا الكرسيّ اللعين.
صَمْتٌ يسودُ المكان ، غُرابٌ يعتنِقُ جفونَ الغسقِ المُتآكل، نسمةٌ تهبُّ من رحمِ ريحٍ كانت ساكنةْ.
– لا أريدُ مالاً يا ولدي, دعني على هذا الكرسي, فقد اعتدتُ عليه، لقد أصبح قطعةً من جسدي، لكن لاتتركني وحيدة هنا.
– سأكَلمكِ كلّ يومٍ يا أمّي, لن تكوني وحيدة, سأكونُ معكِ بروحي وقلبي، جارتنا لنْ تدعكِ لوحدتكِ.
– أتراكَ تظنّ بأنّها ستعوضني عن غيابك ؟
عادَ الصمتُ مُجدداً يعرّشُ على مقاعدِ الجليدْ.
– استودعتك الله يا أمّي, لا أطلبُ إلاّ رضاك …
– أمنيتي أن أموت بين ذراعيك ياولدي …
رُبّما لم يتنبّه حيّانُ إلى كلماتها, قبّلّ يديها وشفتيها، مسحَ على رأسها بيديهِ المُرتجفتينْ، حينها كانتْ الجارة قدْ أطلّتْ من بابِ بيتها القريب.
– هل ستغادرُ يا حيّانْ !!! وفقكَ اللهُ يابني, لا تنسانا من سماعِ صوتك.
– أمّي أمانةٌ لديكِ يا أمَّ كِنان، لا تتركيها، سوف اتصل بكم كل يوم بعدَ مُنتصفِ الليل …
تلك الكلماتُ خرجتْ من أعماقهِ التي تكاد أنْ تنهار، حملَ حقيبته، مسحَ دموعَ والدته التي امتزجت بدموعِ أمّ كنان، حاولَ أنْ يقولَ شيئاً ما، لكنّهُ تشبّثَ بآخرِ ما تبقى لديهِ منْ رجولة، أشاحَ عنهنَ ومضى برفقةِ الغَسقِ الذي توارى منذُ وقتٍ قصير.
أذناه تعبقان بأنينٍ خافتْ، وكلماتُ توسلٍ ورجاءْ، الطائرةُ لم ترحمَ لهفته، انتهى كلّ شيء.
دَاومَ حيّانُ على الاتصالِ بأمّهِ كلّ ليلة، يُصغي إلى صوتها، ثُمّ يرمي بسماعةِ الهاتف, كي يتفرغَ للبكاء لحين قدوم النوم عِنوة ، لم ينس أيضاً أنْ يتصلَ بجارتهِ الحنون كي يوصيها بألاَّ تتركَ أمّه وحيدة.
شهور مرّتْ وكأنّها دهر من زمنِ الجاهلية، كان يُقلّبُ كلّ صباحٍ ورقةَ ( الرزنامة ) يقرأُ حكمةً دُوّنتْ على ظهرها, ثُمّ يدسّها في دُرْجٍ خشبيٍّ مكسور.
هاهي السنةُ تطوي أيامها كشجرةِ لبلابٍ تُداري أوراقها من الصقيع، جَمعَ أشياءهُ قبلَ عدّة أسابيع ، اِتصلَ كثيراً, لكنّ الهاتف كان يرنّ هُناك دونَ جوابْ ( لعلّها نائمة في هذا الوقت ) ؟ .
حتى أمّ كنان اختفتْ منْ أسلاكِ الهاتف, وكأنّ الشوكَ حلّ مكانها,
حطّتْ الطائرةُ على مدرْجٍ أسود اللون، استعجل الوصول إلى البيتِ القابعِ على حافةِ القرية الصغيرة، كانَ الفرحُ يملأ صدره، ففي حقيبتهِ مبلغٌ كبيرٌ مِنَ المالِ يكفي لعملية والدتهْ.
– كم ستكونُ سعيدةً عندما تراني ، وعندما تقفُ على قدميّها منْ جديدْ …
قالَ في سرّهِ بصوتٍ مرتفعٍ سَمعهُ سائقُ التاكسي, نظر إليه بطرفِ عينٍ واحدة, أتراهُ فَهِمَ مايجولُ في نفسه, أمْ أنهُ فضولُ البشر …
هناك وجدَ الكرسيُّ فارغاً ، لمْ تكنْ أمّه, أمّهْ، رمى بالحقيبةِ الملآى بحفنةِ المالِ بركنِ غرفةٍ تجللتْ بالسواد.
قبلَ أنْ يطرق بابَ جارته، واجهتهُ من ثغرِ نافذةٍ تهشمت من قسوةِ الرياح._ حيّانُ السنديان _
_________
لم تكن بقايا غبار ذاك المساء قد غادرت مقاعدها، رغم أن الغسق كان يحتالُ عليها حيناً ، ويحاولُ اغتيالها أحياناً أخرى ، وضعتْ أنثى الحمام ما لديها بثغرِ صغيرها الذي انتظر نهاراً كاملاً، الأمُّ تجلسُ على كرسيّها المُتحرك ، ترْقبُ آخر خيوط الشمس المُجللة بغبرةٍ داكنة ، بجوارها تحطّ الرِحالَ حقيبة كبيرة تحمل الكثير من الذكريات ، لم تشأ أن تبتدئ البكاءَ في هذه اللحظة ، لكن شهيقها كان يُشبه دلو يصعدُ منْ جُبٍّ عميق.
لتوّهِ يُطلُّ حيّان، ابنها الوحيد المُدلل، بوجههِ المائلِ إلى البياض وعينيهِ الزرقاوين, وقامة طويلة كما شجر السنديان, لقدْ صَفّفَ شعرهُ الأشقر, رشّ ماتبقى من عطرٍ في زجاجة تكادُ أن تذرف دمعةً لسببٍ ما على ثيابه التي بدتْ كئيبة الوجه، جلس إلى جوارها بهدوء، ربما خانتّهُ الكلمات، أو أنّه لا يريد صبّ المزيدِ من الزيت على نارٍ ماتزال خامدة.
– أمّاه أرجوكِ لا تبكي … ماهي إلاّ سنة واحدة فقط, سوف أعود بالمال الكافي لتتخلصي من براثن هذا الكرسيّ اللعين.
صَمْتٌ يسودُ المكان ، غُرابٌ يعتنِقُ جفونَ الغسقِ المُتآكل، نسمةٌ تهبُّ من رحمِ ريحٍ كانت ساكنةْ.
– لا أريدُ مالاً يا ولدي, دعني على هذا الكرسي, فقد اعتدتُ عليه، لقد أصبح قطعةً من جسدي، لكن لاتتركني وحيدة هنا.
– سأكَلمكِ كلّ يومٍ يا أمّي, لن تكوني وحيدة, سأكونُ معكِ بروحي وقلبي، جارتنا لنْ تدعكِ لوحدتكِ.
– أتراكَ تظنّ بأنّها ستعوضني عن غيابك ؟
عادَ الصمتُ مُجدداً يعرّشُ على مقاعدِ الجليدْ.
– استودعتك الله يا أمّي, لا أطلبُ إلاّ رضاك …
– أمنيتي أن أموت بين ذراعيك ياولدي …
رُبّما لم يتنبّه حيّانُ إلى كلماتها, قبّلّ يديها وشفتيها، مسحَ على رأسها بيديهِ المُرتجفتينْ، حينها كانتْ الجارة قدْ أطلّتْ من بابِ بيتها القريب.
– هل ستغادرُ يا حيّانْ !!! وفقكَ اللهُ يابني, لا تنسانا من سماعِ صوتك.
– أمّي أمانةٌ لديكِ يا أمَّ كِنان، لا تتركيها، سوف اتصل بكم كل يوم بعدَ مُنتصفِ الليل …
تلك الكلماتُ خرجتْ من أعماقهِ التي تكاد أنْ تنهار، حملَ حقيبته، مسحَ دموعَ والدته التي امتزجت بدموعِ أمّ كنان، حاولَ أنْ يقولَ شيئاً ما، لكنّهُ تشبّثَ بآخرِ ما تبقى لديهِ منْ رجولة، أشاحَ عنهنَ ومضى برفقةِ الغَسقِ الذي توارى منذُ وقتٍ قصير.
أذناه تعبقان بأنينٍ خافتْ، وكلماتُ توسلٍ ورجاءْ، الطائرةُ لم ترحمَ لهفته، انتهى كلّ شيء.
دَاومَ حيّانُ على الاتصالِ بأمّهِ كلّ ليلة، يُصغي إلى صوتها، ثُمّ يرمي بسماعةِ الهاتف, كي يتفرغَ للبكاء لحين قدوم النوم عِنوة ، لم ينس أيضاً أنْ يتصلَ بجارتهِ الحنون كي يوصيها بألاَّ تتركَ أمّه وحيدة.
شهور مرّتْ وكأنّها دهر من زمنِ الجاهلية، كان يُقلّبُ كلّ صباحٍ ورقةَ ( الرزنامة ) يقرأُ حكمةً دُوّنتْ على ظهرها, ثُمّ يدسّها في دُرْجٍ خشبيٍّ مكسور.
هاهي السنةُ تطوي أيامها كشجرةِ لبلابٍ تُداري أوراقها من الصقيع، جَمعَ أشياءهُ قبلَ عدّة أسابيع ، اِتصلَ كثيراً, لكنّ الهاتف كان يرنّ هُناك دونَ جوابْ ( لعلّها نائمة في هذا الوقت ) ؟ .
حتى أمّ كنان اختفتْ منْ أسلاكِ الهاتف, وكأنّ الشوكَ حلّ مكانها,
حطّتْ الطائرةُ على مدرْجٍ أسود اللون، استعجل الوصول إلى البيتِ القابعِ على حافةِ القرية الصغيرة، كانَ الفرحُ يملأ صدره، ففي حقيبتهِ مبلغٌ كبيرٌ مِنَ المالِ يكفي لعملية والدتهْ.
– كم ستكونُ سعيدةً عندما تراني ، وعندما تقفُ على قدميّها منْ جديدْ …
قالَ في سرّهِ بصوتٍ مرتفعٍ سَمعهُ سائقُ التاكسي, نظر إليه بطرفِ عينٍ واحدة, أتراهُ فَهِمَ مايجولُ في نفسه, أمْ أنهُ فضولُ البشر …
هناك وجدَ الكرسيُّ فارغاً ، لمْ تكنْ أمّه, أمّهْ، رمى بالحقيبةِ الملآى بحفنةِ المالِ بركنِ غرفةٍ تجللتْ بالسواد.
قبلَ أنْ يطرق بابَ جارته، واجهتهُ من ثغرِ نافذةٍ تهشمت من قسوةِ الرياح.
– أينَ أمّي يا أمّ كنان … أينّ أمّي …
سكتتْ لحظة, ثُم أومأتْ بأصبعها إلى تلّةِ القرية.
خيّمَ الصمتُ وبعضاَ من ذهولٍ آثمْ على حيّانْ، اِلتهمتْ قدماهُ الأرضَ كما لمْ يفعلَ ذاتَ يوم, فقد كانَ دوماً يحتلُّ المرتبةَ الأخيرة في سباقِ الجري، نَهَمُ الخطوات ينتهي عندَ مواجهةٍ كبرى, وقفَ أمامَ صفيحةٍ مِنَ البلاط الأبيض، أباهُ كانَ هُناكَ أيضاً, جَذَبَ حُفنةَ تُرابٍ منْ فوقِ رأسها, ضمّهُ إلى صدره الذي تعثّرَ بشهيقهِ, قبلَ أنْ يُغادرَ تلكَ التلّة, كتبَ على البلاطِ الأبيض : ( الكرسي لم يمت … يا أماه ) …
__________
– أينَ أمّي يا أمّ كنان … أينّ أمّي …
سكتتْ لحظة, ثُم أومأتْ بأصبعها إلى تلّةِ القرية.
خيّمَ الصمتُ وبعضاَ من ذهولٍ آثمْ على حيّانْ، اِلتهمتْ قدماهُ الأرضَ كما لمْ يفعلَ ذاتَ يوم, فقد كانَ دوماً يحتلُّ المرتبةَ الأخيرة في سباقِ الجري، نَهَمُ الخطوات ينتهي عندَ مواجهةٍ كبرى, وقفَ أمامَ صفيحةٍ مِنَ البلاط الأبيض، أباهُ كانَ هُناكَ أيضاً, جَذَبَ حُفنةَ تُرابٍ منْ فوقِ رأسها, ضمّهُ إلى صدره الذي تعثّرَ بشهيقهِ, قبلَ أنْ يُغادرَ تلكَ التلّة, كتبَ على البلاطِ الأبيض : ( الكرسي لم يمت … يا أماه ) …
__________