أشرقت شمس هذا اليوم من أيام كانون ، يا للمصادفة ، فمنذ زمن لم نعتد على رؤيتها في الصباح ، فقد كان يغتالها الغيم الأسود أحيانا ، والضباب أحيانا أخرى ، لكنها تمردت على الجميع وخرجت بثوبها الأبيض ، ورغم ذلك فإن البرد كان حاضرا فهو يأبى الركوع أمام حرارة متواضعة .
ارتديت لباسي المدرسي بينما كانت أمي ( تدحرج ) لفافة بخبز التنور وبعض حبات الزيتون ، حقيبتي التي مازالت ترافقني منذ ثلاث سنوات تحمل كتبي وأقلامي ، كانت قبل ذلك لأخي الأكبر مني بأربع سنوات ، قبلت يد أمي وانطلقت رفقة أخي الصغير …
كنت حينها في الصف السادس الابتدائي ، أما أخي فكان مازال في الصف الأول ، الدرب ترابية موحلة حتى النخاع ، كنا نجرجر أقدامنا بصعوبة وبطء ، أمسكت بيده كي لا يسقط في الوحل ، اصطكاك أسنانه تضرب مسامعي ، لكن ماذا عساي أن أفعل …
نصف ساعة أو أكثر مضت حتى حطت رحالنا في باحة المدرسة ، كان الجميع هناك ، حتى المدير ذو الأنف المفلطح كان موجودا …
الدرس الأول سار على مايرام ، الرفاق يدسون اياديهم بين أرجلهم حينا وينفخون عليها حينا آخر ، المعلم لا يكترث كثيرا لنا ، فهو رجل جاوز عقده الرابع ، رأسه كان كأرض قاحلة ، صوته يشبه تغريد بلبل ، طويل القامة ، حنطي اللون ، بني العينين ، يختال بمشيته في أرجاء الصف ، دون أن ينسى نكتة بين فينة وأخرى ، كان مرحا في تعامله مع الآخرين …
قضينا وقت الاستراحة داخل الغرفة ، فقد غادرت الشمس ، وبدأ مطر كانون صاخبا في الخارج ، النافذة المكسرة لم تمنع البرد من الولوج إلينا ( يالها من مدرسة ) …
شاهدت المعلم ( ابراهيم ) الذي كان يحبني جدا يخرج من غرفة الإدارة متجها إلى الصف ، لقد حان وقت الدرس الثاني …
هرعت مسرعا إلى رفاقي …
_ هيا … هيا إلى مقاعدكم لقد جاء الأستاذ …
ضحكات الرفاق تزداد ضجيجا ، لا أحد يستمع لصوتي التائه …
_ ما هذا … ما هذا … هل نحن في عرس …
_ أستاذ حاولت أن …
_ أنت عريف الصف … عليك أن تضبط رفاقك …
_ ولكن …
لم أكمل كلامي حتى كانت عصاه تلوح لي ، بسطت يدي مرغما ، أذكر بأني حتى تلك اللحظة لم أعرف نكهة العصا … سالت دموعي كما المطر المنهمر ، امتزج البرد مع قساوة العصا ، لست أدري ما الذي حدث لي فجأة ، صرخت بوجه المعلم وخرجت هاربا من الصف ، تبعني بنظراته وصوته ، لكني لم أعد …
بالقرب من المدرسة كانت ( مزبلة ) القرية تقبع هناك ، لم أجد مكانا آخر أفضل منها ، كنت أعبث بما تحتويه ، أما الدموع فما زالت تنساب من عيني …
_ يا إلهي … هذه ربع ليرة …
حفرت أكثر بلهفة ، لم يعد للبرد مكانا في جسدي النحيل …
_ آه إنها واحدة أخرى …
كدت أن أطير من الفرح ، فهي أول مرة أمسك فيها ( بنصف ليرة ) …
_ سأشتري كل ما أريد اليوم …
انتظرت حتى انتهى الدوام المدرسي ، جائني بعض الرفاق ، لعل المعلم أرسلهم إلي ، حكيت لهم ماحصل معي …
انتشر الخبر بسرعة البرق ، الكل بدأ يبحث عن ودي له ، في تلك اللحظات نسيت أخي الصغير …
_ ماذا وجدت …
_ نصف ليرة …
_ إنها لي … هاتها … هيا …
_ وما العلامة …
_ كل ربع لوحدها …
كان من التلاميذ الراسبين في الصف ، أعرفه جيدا …
سكت المطر للتو ، كان أخي هناك ينادي علي …
_ سوف أخبر أمك بأنك هربت من الصف …
________
٣ رمضان ١٤٤٠