د: بهاء حفني الشافعي
ــ أثير مؤخرا من العالم الفقيه الشيخ الدكتور: يوسف القرضاوي الذي اجتهد في تفسير قوله تعالى: “… فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (سورة النساء)، فقال: ليس ثمة رجم في الإسلام، وإنما الرجم عقوبة تعزيرية وليس حدًا، وأن قوله تعالى: “فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ” يدل على هذا من حيث إن الأمة تجلد خمسين جلدة، فيكون بذلك حد الزنا في الحرة المتزوجة مائة جلدة لا غير”.
ــ وسأله المذيع: لعل الآيات الواردة في صدر سورة النور نسخت هذا حد الرجم؛ فقال: هو ليس حدًا حتى ينسخ، إنما هو عقوبة تعزيرية، وأن الإسلام لا يعرف هذه القسوة، والرجم شريعة يهودية نسخت..
مناقشة هذا الاستدلال:
بادئ ذي بدء إننا لا ننكر لشيخنا القرضاوي علمه وفهمه إلا أنني أتجرأ فأجيب بما فهمني في هذا الصدد؛ فأقول:
ـ حد الرجم ثابت شرعا: بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول
فمن الكتاب: قوله تعالى المنسوخ لفظا الباقي حكما: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالاً من الله والله عزيز حكيم”، قال سيدنا عمر فيما رواه الشيخان: “إن الله تعالى بعث محمداً (صلى الله عليه وسلم) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها، ورجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورجمنا بعده؛ فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وقد قرأتها” الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالاً من الله والله عزيز حكيم”.
ومن السنة: رويت أحاديث كثيرة من طرق متعددة لا يتطرق إليها الكذب أو الاحتمال برجم ماعز والغامدية واليهوديين، وقد قال سيدنا رسول الله في حق المرأة التي قالت: تبًا لي أأفضح قومي سائر اليوم: “لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن”، والشأن هنا: يقصد به رجمها إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقمه لعدم وجود بينة وإنكارها الإقرار في اللعان.
والإجماع: لقد نقل الإجماع عن صحابة سيدنا رسول الله في كون حد الرجم حدًا شرعيا وليس عقوبة تعزيرية.
ومن المعقول: لما كان المتزوج محصنًا ومعفوفًا بالزواج، والحاجة عنده غير داعية لارتكاب هذه الجريمة النكراء فإن الشارع سبحانه غلظ العقوبة في حقه..
ــ ثم أرجع فأجيب على استدلال القرضاوي وأبي زهرة فأقول:
أـ قول القرضاوي: “ليس ثمة رجم في الإسلام، وإنما الرجم عقوبة تعزيرية وليس حدًا” فيه نظر من وجوه:
أولها: يناقش هذا بما ذكرته آنفًا عند بيان ثبوت حد الرجم شرعا من الأدلة.
ثانيها: العقوبة التعزيرية عقوبة قدرها الفقهاء بكونها عقوبة تأديبية دون حد، وأي تأديب أقامه سيدنا رسول الله في حق من ارتكب جريمة الزنى وهو محصن؟!.
فمن المعلوم أن بمجرد ثبوت حد الرجم بالإقرار أقام سيدنا على ماعز والغامدية (رضي الله عنهما) الحد، وعلى قولك يا شيخنا كان ينبغي أن يعزرا بزيادة الجلد دون الرجم، فإن عادا أقام عليهم سيدنا النبي الحد؛ فدل ذلك على كون الرجم حدًا بذاته، وليس عقوبة تعزيرية.
ثالثها: قولك الآنف أخذته من مفهوم المخالفة الذي يصطدم مع النصوص التي ذكرناها آنفا؛ فيكون في غير محله.
ب ـ استدلاله بقوله تعالى: “فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ”، حيث قال: دلت أن المحصنة تجلد خمسين جلدة، فيكون بذلك حد الزنا في الحرة المتزوجة مائة جلدة لا غير؛ وذلك لأن الرجم لا يتنصف.
يمكن مناقشته بالآتي:
ــ أحصن مختلف في تأويلها، ما بين التزويج والإسلام..، وأفضل ما قيل في هذا: الحرة المحصنة بالزواج إذا زنت جلدت مائة ورجمت، ولما كان الرجم لا يتنصف نُصِّف الجلد دونه.
ــ كما أن جواب شرط فإذا أحصن جملة فإن أتين وليس فعليهن نصف، فلينتبه لهذا.
ــ والمراد من التنصيف فسرته السنة بالجلد خمسين، وطالما كانت كلمة (نصف ) مفسرة شرعا بالسنة النبوية فلا يصار لغيرها باجتهاد معاصر.
ــ وكلمة العذاب كما قال شيخنا الشعراوي: تقتضي أن يكون المقصود بها الجلد دون الرجم؛ لأن الرجم ذهاب للحياة وإماتة وليس عذابا، والدليل قوله تعالى حكاية عن سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ مع الهدهد: “لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه”؛ ففرق سيدنا سليمان بين العذاب والذبح، فدل هذا على كون العذاب يفترق عن الذبح الذي هو ذهاب للحياة وإماتة.
ج ـ أما عن قوله إجابة عن سؤال المذيع الذي جاء فيه: لعل الآيات الواردة في صدر سورة النور نسخت هذا حد الرجم؟: “هو ليس حدًا حتى ينسخ، إنما هو عقوبة تعزيرية، وأن الإسلام لا يعرف هذه القسوة، والرجم شريعة يهودية نسخت”.
يمكن مناقشته بالآتي:
ـ كيف ينسخ حد الرجم والصحابة مجمعون على تطبيقه بعد انتقال سيدنا رسول الله؟!، أم أننا نرد بذلك أحاديث وآثارًا وردت في الصحيحين لفهم يصطدم وصحيح الدين الذي نتعبد لله به، ومنها ما يقطع قول كل خطيب كقول سيدنا عمر في الصحيحين: “فرجم رسولُ الله ورجمنا بعده”.
ـ وقوله: “ليس حدا” سبق مناقشته فلا داعي لتكرار الكلام مرة أخرى؛ فلينظر، وأضيف لو أن الرجم عقوبة تعزيرية لطبق سيدنا رسول الله عقوبة دونه على الغامدية رحمة بصغيرها، فقد ورد في السنة ما يفيد تأجيل الحد حتى اكتملت رضاع الطفل، فكان من الأولى تطبيق عقوبة تعزيرية غير الرجم على الغامدية.
فلما لم تطبق أية عقوبة تعزيرية دون الرجم على الغامدية دل ذلك على كون الرجم حدًا وليس عقوبة تعزيرية.
ـ وقوله: ” وأن الإسلام لا يعرف هذه القسوة، والرجم شريعة يهودية نسخت” ففيه نظر؛ وذلك لأن الذي حد الحدود هو الله الذي يعلم من خلق، كما أن ثبوت الحد بقرينة الشهادة يكاد يكون مستحيلًا نظرا للقيود التي وضعها الشارع…
ولكني أتساءل: كم عقوبة رجم طبقت في الإسلام بقرينة الشهادة؟، لا توجد عقوبة رجم واحدة طبقت بقرينة الشهادة، وإنما طبقت بقرينة الإقرار.
وأنبه على أمر ذكره جمع من أهل وهو: يستفاد من رد سيدنا رسول الله لماعز أن التوبة والستر اولى من الإقرار؛ وعندما بلغ سيدنا رسول الله قول ماعز: ما ظننت محمدًا قاتلي، قال للصحابة: “هلا كنتم رددتموه إلي” أو كما قال.
فينتفي بذلك دعوى أن الإسلام حريص على القسوة، بل الأصوب أن نقول: إسلامنا حريص على تطهير المجتمع وإعفافه عن الحرام؛ فالحدود في الإسلام زواجر وجوابر.
وفي النهاية أقول:
إنني بذا لا أنتقص القرضاوي حقه، ولكني رددت عليه بأدب، وإلا فالصواب: ما كان لمثلي أن يرد على قامة علمية كبيرة كالقرضاوي (حفظه الله)؛ ولكنها كلمات ذي عرج؛ فأرجو من أهل العلم أن يقوموا فيها اعوجاجي..