الغزو الفكري لمجتمع ما يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى، أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة، وهو أخطر من الغزو العسكري، لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد , أن الحروب والصراعات هي نتيجة لصراع الأفكار، أو العقائد، أو الرؤى التي تعكس مصالح ورغبات أصحابها. وإذ أن النظام العالمي اليوم بعقيدته الرأسمالية لا يسعى إلا لمزيد من الهيمنة فإن الإسلام يقف له بالمرصاد ويحث معتنقيه على مقاومة ذلك النظام.
بعد مضي أكثر من قرنين من حروب دامية، اشتد وطيسها، بين كتائب الإيمان، وبين جحافل الشر ، ارتدت الحروب الصليبية، وقد باءت هذه الحملات بالإخفاق والهزيمة، فالقديس (لويس التاسع) قائد الحملة الصليبية الثامنة، وملك فرنسا، وقع أسيراً في مدينة (المنصورة) في مصر. ثم خلص من الأسر بفدية، ولما عاد إلى فرنسا، أيقن أن قوة الحديد والنار لا تجدي نفعاً مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة، تدفعهم إلى الجهاد، وتحضهم على التضحية بالنفس، وبكل غال.
إذن: لابد من تغيير المنهج والسبيل، فكانت توصياته: أن يهتم أتباعه بتغيير فكر المسلمين، والتشكيك في عقيدتهم وشريعتهم، وذلك بعد دراستهم للإسلام لهذا الغرض، وهكذا تحولت المعركة من ميدان الحديد والنار إلى ميدان الفكر، لأن القضاء على الإسلام أو تحويل المسلمين عن دينهم، لا يمكن أن يأتي عن طريق القوة المسلحة،ولقد بدأت حركة (الغزو الفكري) من منطلق ضرب المسلمين عن طريق الكلمة، بعد هزيمة الحروب الصليبية – كما وجههم (لويس التاسع) – والعمل على ترجمة القرآن، والسنة، وعلوم المسلمين، للبحث عن الثغرات التى يدخلون منها إلى إثارة الشبهات، وقد أعلنوا صراحة أن الإسلام هو عدوهم الأول، وأن أكبر غاية لهم هي ضرب وهدم قواعده) .
لقد فشلت الحروب الصليبية من الوجهة الحربية. . لكن بقي (الغزو الفكري) ينفث سمومه، ويثير الشكوك، وبقيت النزعة الصليبية تتوارى خلف ستار من الدبلوماسية، والرياء السياسي، تحرك ما تريد تحريكه، وتقف خلف الغزو الفكري، بكل ما لها من قوة، وعلم..لقد اشترك الاستعمار الغربي، والجهد التبشيري، والحقد الصليبي، في حرب المسلمين، وتشتيت تراثهم، ونهب ديارهم، بحيث أصبح يخيم عليهم كسحابة سوداء، من البغضاء الكراهية، يتمثل هذا فيما حدث في عام 1918م عندما دخل اللورد (اللنبي) القدس، وأعلن: (الآن انتهت الحروب الصليبية) كان هذا القائد يعبر عن الروح الأوروبية، الروح الصليبية، التي ظلت متوهجة في أعماقهم طوال تلك الحقب، وبنفس الحقد الذي صدر عن الجنرال الإنجليزي (اللنبي) ، كان مسلك الجنرال الفرنسي (غورو) قائد الجيش الفرنسي في دمشق حين ذهب إلى قبر صلاح الدين، بعد أن جاء راكباً سيارة مكشوفة، وترجل إلى القبر.
وقال قولته المشهورة: (نحن هنا يا صلاح الدين) وفي اليوم التالي عمل الشيء نفسه في حمص، حيث ذهب إلى قبر (خالد بن الوليد) – رضي الله عنه – وقال: (نحن هنا يا خالد). وما زالت تلك الموجة، تعلو، وتشتد، وتمتد، ثقافياً وفكرياً، لتخريب قواعد الإسلام، والأخلاق الإسلامية، وإشاعة الأفكار والتيارات الهدامة، وشغل الأمة الإسلامية، بكل ما هو هامشي في حياتها، حتى لا تدرك اليقظة الواعية .
التقدم العلمي المذهل للغرب، كان قوياً دفاقاً، له من القوة والانتشار والاستيلاء، ما بهر العقول، وفتن الألباب، ، واستطاع أن يخرج من الأسرار، ويكشف من الاختراعات، ما جعل أبصار الناس وعقولهم تتعلق به، وخاصة أن هذا العلم أصبح في خدمة الإنسان، في كثير من مناحيه، فاتجهت الأنظار، والعقول، والقلوب إلى الغرب ، كان تحدي الحضارة المادية للعالم الإسلامي، أعظم من تحديها لأي أمة، ولأي حضارة، ولأي ثقافة، وقد صاحب تلك الحضارة مذاهب فكرية، وفلسفات مادية، ونظم سياسية، واقتصادية، وعمرانية، واجتماعية، وخلقية، وكان لا بد أن ينظر الناس – وخاصة الشعوب المتخلفة إلى هذه المذاهب، والفلسفات، والنظم نظرة تقدير واحترام، لأنها نتاج تلك الشعوب المتقدمة، وحصاد تلك الأمم المتطورة التي فتتت الذرة .
وصنعت الطائرة والصاروخ، وأدارت الأقمار وغزت الفضاء,والتفكك الاجتماعي نتيجة حتمية للضعف الفكري، لأن الضعف الفكري لا يكشف للإنسان مخاطر الانزلاق في الهاوية، ولهذا نجد أن المجتمعات الإسلامية، ابتليت بالطوائف المتعددة والمتناحرة، والمذهبية التعصبية، وتعدد السلطنات والدويلات، التي قامت على أساس شعوبي أو مذهبي.
أن الأمة التي تفضل أو ترضى بالتواكل، والاستجداء، والكسل، والتبعية، أمة لا تستحق الحياة الكريمة، والحياة الحرة الكريمة لا تتأتى لأمة دون ثمن، والثمن هو التضحية، ولا يتأتى لأمة أن تشق طريقها في الحياة، وأن تستعيد وجودها وكرامتها، وتعيد صنع حياتها، دون أن تحاول جاهدة أن تبني نفسها , فالعقيدة ضرورة لا غنى عنها للفرد والجماعة. . ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد، وتطهر نفسه. . وضرورة للمجتمع ليستقر ويتماسك، ويترفع وينهض. .
فالفرد بغير عقيدة كالريشة في مهب الريح، تحوله يميناً وشمالاً، فلا يسكن له حال، ولا يستقر له قرار