عندما يتغنى البمبوطى «تسلم يا قنال.. يا أبو رزق حلال» أصبحت مهنه قابلة للاندثار وميراث شعبى على وشك الفناء
إنها إحدى أشهر المهن فى مدينتى السويس وبورسعيد، بدأت مع افتتاح قناة السويس وعبور السفن بها من كل الجنسيات، ففور توقف السفن الأجنبية المارة فى قناة السويس تجد القوارب الصغيرة الخاصة بالبمبوطية تنطلق تجاهها، ليبدأ البمبوطى عمله فى بيع البضائع لركاب السفينة، حيث يبيع لهم التحف والهدايا التذكارية المصرية خاصة تلك التى يتم بيعها فى أماكن وجود السائحين الأجانب مثل خان الخليلى وبازارات الأقصر وأسوان، وذلك بعد أن كانت البضائع فى بداية عمل البمبوطية تتوقف عند بيع المواد الغذائية ومياه الشرب، وهناك بعض البمبوطية يفرشون بضاعتهم على رصيف الميناء فى انتظار البحارة ركاب السفن الذين يستغلون ساعات رسو سفينتهم فى التجول فى الميناء.
وقد عرفت مدن القناة تلك المهنة منذ افتتاح القنال عام 1869 فكان بعض أبناء المدن يتجهون إلى الموانئ وفور رؤيتهم لسفينة ترابط يتجهون لها بمراكب صغيرة يبيعون ما معهم من بضائع، وكان الأجانب فور رؤيتهم يسعدون
فقديما كان البمبوطى مساعدا للأجانب إبان وجودهم ببورسعيد وبعد تأميم القناة ورحيل الأجانب عنها أصبح البمبوطى هو المسيطر على المهنة، وجاءت الأجيال لتتوارث تلك المهنة والتى جلبت الكثير من الرزق وساعدت فى فتح العديد من المنازل، وكانت هذه المهنة فرصة لتسويق المنتج المحلى للأجانب على ظهر السفينة.
في البحر وعلى متن السفن يقضي «البمبوطية» ساعات طويلة في عرض بضائعهم الشرقية على مئات الجنسيات من البحارة الذين يستقلون السفن القادمة إلى ميناء بورسعيد قرب مدخل قناة السويس.. بخفة ورشاقة يتسلقون سلالم السفن والناقلات العملاقة التي ترسو بالميناء عارضين بضائعهم من التحف الفرعونية وورق البردي والملابس القطنية محلية الصنع على البحارة والركاب.. وخلال ساعات محددة يقضونها يوميا على متن السفن، يتحولون إلى سفراء على غير العادة لبلدهم بين جنسيات من شتى أنحاء العالم.
في ميناء بورسعيد وعلى رصيف الرسو يوجد يوميا المئات من البمبوطية، كل منهم ينتظر بشغف دخول السفينة التي سيتسلق إليها، وفق تنظيم واتفاق بينهم، بحيث يعتلي كل سفينة مجموعة من البمبوطية، بعضهم متخصص في بيع التحف للسفن الروسية، والآخر متخصص في بيع البرديات للسفن الهندية، وذاك يحسن التعامل مع البحارة على متن السفن الإيطالية.
مهنة عمرها داخل مدينة بورسعيد تعدت القرن ونصف القرن، ورغم ما تحفها من مخاطر وما تعتريها من تغيرات اقتصادية وأحداث سياسية فقدت المهنة كثيرا من مظاهرها، فإن البمبوطية ظلوا محتفظين بهويتهم رافضين العمل بغيرها والبحث عن مصدر رزق في مكان غير البحر.
فيقول أحد البمبوطية: لقد تنازلنا عن أعمالنا الأصلية لنتفرغ للمهنة التى ورثناها وهى مهنة البمبوطى، ومع ذلك نجد أمامنا صعوبات تواجهنا فى أرزاقنا فلم يعد هناك اعتراف بالبمبوطى داخل الميناء فمكاتب التوكيلات الملاحية لا تساعدنا فى الصعود على البواخر الراسية فى ميناء بورسعيد وأيضا التى تمر مباشرة من قناة السويس ويتم منعنا من مزاولة المهنة، مع العلم بأنه ليس للبمبوطى أى مورد رزق آخر غير العمل على البواخر وعرض بضائعه من الصناعة المصرية على طقم البحارة الذين يعملون على تلك البواخر ويخضع البمبوطى لإجراءات أمنية مشددة فى استخراج التراخيص والتصاريح الخاصة بعمله.
يشير م.ع «بمبوطى» أن البمبوطية يعانون من قلة دخول البواخر إلى ميناء بورسعيد ورسوها بمنطقة الغاطس للعبور مباشرة من قناة السويس وهذا الأمر يضر بالبمبوطية ويحرمهم من ممارسة أعمالهم نظرا لقلة البواخر بالميناء.
فهناك جمعيات كثيرة ينضم له ذوى المهنة ومنها جمعية «أبناء البحر» التي يشترك في عضويتها نحو 400 بمبوطي من بورسعيد: «البمبوطية كمهنة استحدثها حفر قناة السويس وموقع بورسعيد كميناء رئيسي على البحر المتوسط حيث انضم المئات من عمال حفر القناة الذين أنهوا عملهم في حفرها للتسلق على السفن والناقلات بكافة أنواعها عارضين بضائعهم من المنتجات المصرية التي تحمل التراث الفرعوني على البحارة الموجودين على متن السفن. وهذه البضائع منذ افتتاح القناة تلقى إقبالا وسوقا رائجة بين الأجانب، ويستمر عمل البمبوطي على المركب لأكثر من ثلاث ساعات يلاقي فيها ترحيبا هائلا من البحارة حيث يفتحون له صالة الزائرين ويلتفون حوله لتفحص البضائع التي يحملها».
فأن البمبوطية لديهم ثلاثة طرق للوصول وبيع بضائعهم، فبعضهم ينتظر وصول السياح إلى رصيف ميناء بورسعيد حيث يتم عرض بضائعهم بفرشها على رصيف الميناء. لكن أغلبية السفن والناقلات الراسية بالميناء والبعيدة عن الرصيف يتم الوصول إليها بقوارب صغيرة يستقلها البمبوطي حتى الوصول لسلم السفينة فيعتليه للوصول إلى سطح السفينة حاملا بضائعه في حقيبة جلدية معلقة على الظهر. وما إن يصل إلى سطح السفينة حتى يقوم بعرض بضائعه في فترة زمنية لا تتعدى ثلاث ساعات تقريبا وهي فترة رسو السفينة بالميناء لتستكمل رحلة إبحارها».
وأيضا أحيانا ولظروف أمنية ولتعليمات من التوكيلات الملاحية يتم منع صعودنا إلى السفينة حيث نقوم بعرض البضائع على سطح القارب الصغير ويتجمع البحارة لمشاهدة البضائع وتتم عملية البيع والشراء وكل في مكانه، حيث يقوم أحد البحارة التابعين للسفينة بتوصيل النقود إلى البمبوطي ونقل البضائع إلى السفينة».
فأفضل الأوقات التي يقضيها البمبوطي على السفينة داخل قناة السويس، حيث يقوم البمبوطي بالوصول إلى السفن قبل دخولها إلى الممر الدولي من البحر المتوسط، وهذه الرحلة تكلف البمبوطي نحو ألف جنيه. ويتابع يقوم البمبوطي بتأجير لنش تصل تكاليفه لأكثر من 250 جنيها حتى يتمكن من الوصول للسفينة في عرض البحر، وهناك يصعد إليها قبل دخولها قناة السويس وحتى وصولها إلى السويس في رحلة تمتد لأكثر من 16 ساعة داخل قناة السويس. ،و طوال هذه الفترة يقوم البمبوطي بعرض بضائعه على طاقم السفينة والبحارة والركاب إذا كانت السفينة سياحية.
وعند الوصول إلى السويس يكون في انتظاره لنش آخر ليقوم بتوصيله من السفينة وحتى الميناء وبتكلفة تصل إلى 250 جنيها ومن الميناء يستقل سيارة خاصة للعودة إلى بورسعيد تصل تكلفتها لنحو 150 جنيها، فضلا عن مصروفات الطعام والشراب وبعض الهدايا التي يقدمها لقبطان المركب حتى يتم تدعيم العلاقات بينهم.
وفى الآونة الأخيرة تستصدر السلطات المصرية للبمبوطية تصاريح لمزاولة المهنة والعمل داخل الميناء وحرية التحرك داخل البحر، إلا أن الإجراءات الأمنية التي فرضتها الجهات الأمنية على مرور السفن، خاصة الحربية منها، قللت كثيرا من حركة البمبوطية داخل الميناء وباتت هناك نوعيات من السفن يحظر على البمبوطية اعتلاؤها، كما أنه بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 بأميركا فرضت إجراءات أمنية مشددة على عبور السفن بقناة السويس وعلى دخولها ميناء بورسعيد.
فأن البمبوطية كانوا دائما يعتلون السفن بكافة أنواعها ومنها الحربية، مضيفا أنه اعتلى غواصات أميركية وفرقاطات إنجليزية وقام بعرض بضائعه على الجنود والركاب الذين كانوا يستقلونها ولم يكن هناك أي موانع تفرض عليه وعلى زملائه.
فأن البمبوطية معروفون لدى الجهات الأمنية بالأمانة، وهناك علاقات متوازنة مع السلطات المصرية، فالكل يعتبرهم بمثابة السفراء لمصر بين البحارة من مختلف دول العالم. ويشير المصري أيضا إلى أحداث سبتمبر وتسببها في حظر اعتلاء البمبوطية السفن الحربية وعددا من السفن السياحية وبعض سفن الحاويات.
أما ع.ع وهو بمبوطي يتقن اللغة الهندية ومتخصص في التعامل مع السفن الهندية فيرى أن أكثر البحارة إقبالا على شراء البضائع المصرية هم الهنود والروس والأوروبيون. وأكثر البضائع التي تلقى رواجا بين البحارة والسياح هي الملابس القطنية المطبوع عليها نقوش فرعونية، وكذلك التحف والتماثيل الفرعونية. ويتم شراء هذه المنتجات من خان الخليلي بالقاهرة.
ويكشف أن هناك الكثير من الموظفين بميناء بورسعيد يمدون البمبوطية بقائمة السفن وأنواعها المقرر دخولها للميناء في اليوم التالي حيث يتم تقسيم السفن على البمبوطية بترتيب دخولها للميناء، فهناك منا من يتخصص في التعامل مع السفن البنمية، وهناك من يتقن التعامل مع الروس، وهناك من يفضل التعامل مع الهنود، وهناك من يهوى التعامل مع الأوروبيين.
فلم تعد مكاسب البمبوطي كما كانت في الماضي، فقبل نحو عشر سنوات تحديدا كانت المكاسب اليومية تصل لنحو 20 إلى 30 جنيها بصفة يومية، لكن الآن الوضع اختلف تماما وأصبحت المكاسب الأسبوعية تصل لنحو 50 جنيها فقط، خاصة مع إجراءات التوكيلات الملاحية التي تمنع البمبوطية من صعود السفن.
وعلى طاولة البمبوطية يصل سعر ورقة البردي لنحو 5 دولارات، فيما يتراوح سعر القميص القطن ما بين 10 إلى 15 دولارا طبقا لجودة القطن المصنوع منه. وتترواح أسعار التحف والتماثيل حسب الحجم ما بين 10 دولارات حتى 40 دولارا حسب الحجم.
ولم تشهد مهنة البمبوطية تغيرا فقط في نوعية السلع بل وصل التغير لطبيعة عمل البمبوطي نفسه، كما تغيرت أدوات عمل البمبوطي حيث كان البمبوطي يحمل بضائعه الشرقية من أسواق بورسعيد ويذهب على «الحمار» إلى الرصيف الذي تنتظر عليه السفينة، إما أن يبيعها مقابل عملات أجنبية أو يقايضها ببضاعة أخرى مع البحارة أو السياح. وتطورت وسيلة نقل البضائع من الحمار إلى «التروسيكل» ثم القوارب الخشبية الصغيرة وكانت تسمى الواحدة منها «فلوكة» حتى وصلت إلى الوسيلة الحالية وهى «اللنش البحري».
وكان البمبوطية يتوجهون إلى السفن بشكل طبيعي بعدما يحصلون على التراخيص من أمن وهيئة الموانئ، وكان كل ما يفعله البمبوطي هو أن يلقي بحبل طويل لأحد الركاب بعدما توجه بالقرب من السفينة بواسطة «الفلوكة» وفي نهاية الحبل «زمبيل» أو خطاف معلق به بعض تلك الأطعمة أو الفاكهة أو الشراب وينتظر الفرج، وفي النهاية يعود له الطرف الآخر من الحبل وبه بعض الهدايا من الملابس أو الأجهزة الكهربائية أو النقود في بعض الأحيان مقابل ما أعطاه لركاب السفينة من بضائع، ثم يعود أدراجه نحو المدينة. فإن كانت أموالا اشترى بها قوتا لأولاده ، وإن كانت بضائع باعها لأهل بورسعيد أو رواد المدينة. وفي ظن الكثيرين من البورسعيدية كانت البمبوطية من أفضل المهن بالموانئ وأرقاها على الإطلاق حيث كان البمبوطي يتميز بملابسه الأنيقة ورائحة البارفانات الأجنبية وسعة رزقه، كما كان هو أفضل رجل تفضله الأسرة البورسعيدية زوجا لبناتها.
وشهدت المهنة الكثير من التحديات أبرزها بعد تحول مدينة بورسعيد إلى منطقة حرة حيث اتجه الكثير من البمبوطية إلى التجارة وبدأت السفن السياحية تسمح للركاب بالتجول في المدينة، إلى أن جاء قرار عدم صعودهم إلى البواخر الحربية والسفن التجارية العملاقة الذي ضرب المهنة في مقتل، مما دفع الكثير منهم إلى الاتجاه لأعمال باليومية كسائق تاكسي أو عامل نظافة أو شيال بالميناء، في الوقت الذي رفض فيه متوارثون للمهنة التخلي عن مزاولة مهنتهم الأصلية.
الجدير بالذكر أن مهنة البمبوطية تعرضت للكثير من المصاعب والمعوقات خلال السنوات الماضية، مما جعل العديد من الخبراء يؤكدون أنها فى طريقها للاندثار، وأن الوضع الحالى لو استمر فبعد فترة وجيزة ستندثر هذه المهنة وتتحول لجزء من التاريخ.