يحكي أهل دولة داغستان الروسية عن أجدادهم حكاية شعبية طريفة تقول :
” ابتليت قرية الفئران بقط ضخم تسلط عليهم وكانَ كل يومٍ يقتلُ منهم أكثر من عشرة، حتى كادتْ الفئران تفنى على يديه!
ما الحل ؟
في أحد الأيام استغلَّ الفئرانُ انشغال القط مع حبيبته القطة في جلسة (آخر انسجام ورومانسية)، وعقدوا اجتماعاً عموميا لكل أفراد قبيلة الفئران؛ كي يخرجوا بحل عاجل وسريع يحقن دماءهم وينقذهم مما ابتلوا به ، عندها قامَ فأرٌ كبيرٌ في السن، تُلقِّبه الفئران بالحكيم، وقالَ لهم:
هذا القط يملك ما لا يملكون فهو يستغل أهم عنصر من عوامل تحقيق النصر وأسهلها في آن واحد وهو عنصرَ المُفاجأة، وما عليهم إذا أرادوا التخلص منه إلا معرفة الوقت الذي سيُهاجمُ فيه … ولعب في ذقنه بأنامله ثم قال لهم : قد وجدتُ طريقةً لذلك!
قالتْ الفئران بصوتٍ واحدٍ: ما الحلُ أيُّها الحكيم؟
قالَ لهم: إليكم الحل في منتهى البساطة :
هذا جرسٌ مربوطٌ بحبل، كل ما نحتاجه فقط هو أن يضعه أحدكم حول رقبته عندما ينام، فإذا قامِ أصدرَ الجرسُ صوتاً فنعرفُ من مصدر صوت الجرسِ خط سيره ومتى يصيرُ في ناحيتنا!
صفق الفئران بشدة في فرح وإعجاب وأُعجِبواْ بخطةِ الحكيم البسيطة والناجعة .. وأقاموا احتفالا كبيرا رقصوا فيه وأكلوا وشربوا حتى الصباح .. وبقيَ أمامها التنفيذ!
من سيختاره الحكيم للقيام بتنفيذ تلك الخطة السريعة ؟
اختار الحكيم الفأر (أبو سريع السريع) لتنفيذ الخطة؛ فليس هناك أسرع منه في الكر والفر وهو أصلح من يقوم بتلك المهمة .. ولكن يا لخيبة الأمل ! فقد اعتذر لأنه يعاني من إسهال شديد بسبب أكل قطعة من اللانشون المصنوع تحت بئر السلم في أحد المصانع غير المرخصة !
تدارك الحكيم الأمر سريعا ونادى على الفأر (مجانص)؛ فهو ذو بنية قوية، ودائما ما يتفوق على أقرانه في رياضة المصارعة الفئرانية، ولكن للأسف مجانص اعتذر بأنه ثروة قومية، ولا يمكن أن يضحي بنفسه لتنفيذ تلك المهمة؛ لأنه سيمثل القبيلة في أوليمبياد الفئران 2025 المقامة في أكبر بلاعة في شبرا .
الاختيار صعب ولكن لابد من التنفيذ بأقصى سرعة، فوقع الاختيار على الفأر البلطجي (أبو عضه) الذي لا يرحم من يقع تحت يديه فيهبره بأسنانه الحادة ليقع فريسة الآلام ويحتاج إحدى وعشرين حقنة للعلاج فبحثوا عنه ليجدوه قد انتهى لتوه من مشاجرة قطع فيها أذن ثلاثة فئران وأرجل أحدهم وذيل آخر .. !
طلب منه الحكيم أن ينقذهم وشرح له الخطة .. أعجب بها (أبو عضه) وأثنى لمدة ساعة ونصف على براعة الحكيم وشدة ذكائه ففرح الحكيم وقال له هيا يا بطل ..
ولكن أبو عضة طلب تأجيل التنفيذ لمدة عام؛ حتى يطمئن إلى ولادة زوجته الحامل في ثلاثة توائم وإرضاعهم وإدخالهم المدرسة !
الأمر جد خطير والتأجيل معناه فقدان القرية لخيرة أبنائها، فاختار الفأر (زعبولا) الذي اعتذر مثل سابقيه متعللا ببطء حركته، الأمر الذي يشكل خطرا على حياته، خاصة وأن القط في عنفوان شبابه وسرعته !
فوقع الاختيار على (نحنوح المِسَهْوِك) الذي اشتهر بأنه خاطف قلوب عذارى الفئران، كما أنه يتميز بخفته وسرعته وقدرته على التصرف في المواقف السريعة، خاصة عندما يأتي أبو الفأرة فجأة إذا ما كان في موعد غرامي !
الاختيار هذه المرة في محله .. رحب نحنوح بالفكرة، وشكر الحكيم على حسن ثقته وتعجب من أنهم لم يختاروه من البداية: فالحادث جلل والأمر خطير ولابد من التنفيذ بسرعة، فقد مر زمن منذ اجتماعهم وخلال هذه الفترة مازال القط يعربد فيهم كيفما شاء ويقتل منهم كل يوم فلذات أكبادهم !
فرح الفئران بهذا الكلام الذي يبعث على الأمل، وأعطاه الحكيم الجرس.. ولكن للأسف فقد اعتذر لأنه يعاني من دوخة وصداع إثر صفعة شديدة من إحدى الفأرات حين حاول خطف قبلة سريعة ولا يمكنه التنفيذ !
وهكذا بقيتْ الخُطة قيد التنفيد حتى أفنى القط قريةَ الفئران!
وهكذا ضاعت الآمال بسبب عدم التنفيذ .. العجيب في الأمر أن الخطة جاهزة، وأتفق عليها والتنفيذ سهل، لكنه يحتاج جرأة في اتخاذ القرار..
كم من حلم ضيعناه وكم من هدف لم ننجزه بسبب التعلل بأعذار واهية !
اذهب إلى المقابر وتخيل أن غالبية هؤلاء الراقدين تحت التراب كانت لديهم خطط رائعة لكن الموت لم يمهلهم فلم تتحقق الأهداف بسبب التسويف .. ما أبشع كلمة سوف !
نحن بارعون في التنظير ورسم الخطط ووضع النظريات ولكن قليل من ينفذ
أين نحن من صاحب النقب ؟ من منا كصاحب النقب ؟
تذكر كتب التاريخ قصة الأمير مسلمة بن عبد الملك، أحد أبطال الفتوحات في المشرق مع صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصناً واستعصى على المسلمين فتحه، فأرشد الناس إلى نَقْب منه (أي ثقب)، لعل أحدًا منهم يدخل منه، ويقاتل في الداخل ويفتح أبواب الحصن للمسلمين، فجاء رجل من عُرض الجيش، يجري بسرعة رهيبة ومعه فأس ضخم فاقتحم النقب ودخله، ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: “أين صاحب النِّقب؟” فما جاء أحد!
فنادى: “إني قد أمرت بإدخاله إلىَّ ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء”؛ فجاء رجل فقال: “استأذن لي على الأمير”. فقال له: “أنت صاحب النِّقب؟” قال: “أنا أخبركم عنه”، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال: “إن صاحب النِّقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟” قال مسلمة: “فذاك له”، قال: “أنا هو”. فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: “اللهم أجعلني مع صاحب النقِّب”
للأسف نحن نضع أهدافا بلا خطة لذلك تتحول إلى أمنيات كالبناية على الورق لا تصلح للسكن !
شتان بين الفئران وبين صاحب النقب، الذي بدأ بنفسه وغامر وتحقق النصر على يديه .
كم منا من قرر أن يصالح أخاه أو صديقه، ولكن الحياء يعقد لسانه، وتأخذه الكبرياء إلى مسافات بعيدة فتزيد الفجوة بينهما يوما بعد يوم .
يضيع العمر في الندم على فرص لم نغتنمها برعونتنا وحماقتنا وتعللنا بأعذار لا تنطلي على طفل صغير والنتيجة ؟
محلك سر !
يقرر الزوجأن يصالح زوجته، ولكن كرامته تمنعه فتضيع فرص الصلح الواحدة تلو الأخرى والنتيجة ؟
خراب البيت
كم من طالب قرر أن يجتهد من أول يوم في الدراسة ثم يسوّف ويؤجل حتى يفيق على صراع رهيب بينه وبين الوقت والغلبة فيه معروفة لمن !
ضياع المستقبل
كم من شخص طموح زرع نفسه في مكان لا يتناسب مع مؤهلاته ومع إمكاناته، وقرر أن يبحث عن مكان أفضل ولكنه يقرر تأجيل ويتعذر، حتى نبتت له جذور في المكان وصار كالشجرة لا يخرج منها إلى مكان أفضل ومكانة أرقى فدفن نفسه وقدراته ومواهبه .
اسأل من تخطت أعمارهم الخمسين سيحكي لك كل واحد عن فرصة عمره التي أضاعها بحماقة الأعذار والخوف من المغامرة وبالتالي ظل طيلة حياته في انتظار الفرصة وعندما جاءت تغلب خوفه وقلقه على عزيمته فقرر المكوث ..
هناك الكثير قرر أن يفعل لوالديه الكثير ويصالح أحدهما إذا أغضبه فيقدم رجلا ويؤخر أخرى ثم يقرر التنفيذ ليفاجأ بأنه جاء بعد فوات الأوان فيلقي باقة ورد على قبرهما .. وهل تجدي؟ !
كم منا من أضاع من يديه فتاة أحبها وأحبته بسبب التعلل في التنفيذ، فتسللت من بيد يديه لصاحب المبادرة الذي فاز بها؛ ليندب صاحبنا المتعلل حظه ويبكي بكاء الندم عندما يسمع صوت عبد الحليم : “لو كان الدمع يجيبه كنت أبكي العمر عليه “!
كلمة السر في تحقيق أي أمنية هي التنفيذ وهي النهاية الطبيعية لأي مشروع أو خطة، وفرق كبير بين الإنجاز والحبر على ورق ..
وأخيرا همسة في أذن قارئي الغالي :
“إذا عزمت فتوكل على الله”