بقلم هشام صلاح
طلب منى أخى الأحب الصحافى ” طارق البربرى ” أن اكتب سلسة مقالات عن الشعراء والشعر فكان كلامه لى محطة أتزود منها بطاقة حماس وظلت كلماته تثير فى نفسى وقودا من الهمة والعزيمة فانطلق قلمى بمدمار المقالى مع ” متبى العصر الحديث ” ” شاعر العرب الأكبر”
” متنبى العصر الحديث ” أو ” نهر العراق الثالث ” أو ” شاعر العرب الأكبر ” كلها ألقاب استحقها إنه ” محمد مهدي الجواهري ” شاعر عربي عراقي، يُعد من بين أفضل شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي.
وحول نشأته التى كانت بالنجف، في أسرة أكثر رجالها من المشتغلين بالعلم والأدب. رجع أصول الجواهري إلى عائلة نجفية عريقة واكتسبت لقبها الحالي “الجواهري” نسبة إلى كتاب فقهي قيم ألفه أحد أجداد الأسرة وهو الشيخ محمد حسن النجفي، وأسماه “جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام وبهذا جاء لقب الجواهري
* ودرس الجواهرى علوم العربية وحفظ كثيرًا من الشعر القديم والحديث ولاسيما شعر المتنبي. اشتغل بالتعليم في فترات من حياته، وبالصحافة في فترات أخرى، فأصدر جرائد «الفرات» ثم «الانقلاب» ثم «الرأي العام»، أول دواوينه «حلبة الأدب» 1923م وهو مجموعة معارضات لمشاهير شعراء عصره كأحمد شوقي وإيليا أبي ماضي ولبعض السابقين كلسان الدين بن الخطيب
* * وحول لقبه ” شاعر العرب الاكبر ” إنما جاء لفصاحة لسانه وقوة قصائده مما جعل شعره يطبع فى اذهان الناشئة قيم ومبادئ انسانية لا تنسى وعلى الرغم من وجود الكثير من كبار الشعراء فى عصره إلا أن الشعراء وصفوه بمتنبى العصر الحديث لتشابه اسلوبه ومتانة شعره مع المتنبي
لقد عاد المتنبي في الجواهري، شموخًا،وتمرّدًا،وحبًّا، وجزالة، وصورًا حيّةً ناطقة من الحياة، ورفضًا للظلم، وحربًا على الطغاة وتطلعًا إلى الغد المشرق .
* * من طرائف الجواهرى ما روى :
” أنه في مرحلة نضاله ضد نوري السعيد ، نشر في جريدته قصيدة يهجوه فيها ، وكانت من عيون الشعر ، فأصدر نوري السعيد أمراً باعتقال الجواهري وبإيقاف الجريدة ..
وقال أبو فرات
– كنت أتوقع أن يصدر نوري السعيد أمراً باعتقالي ، فذهبت أختبئ عند صديق قديم لي ، وقد أفرد لي الصديق مخبأ في قبو مهجور من منزله المنزوي… وترك عندي طعاماً وهاتفاً..
وقال – يا أبا فرات…
” ستبقى وحدك في الدار ، وهذا هاتف لا يعرف أحد رقمه.. لأنه مهجور مع الدار فإذا رنّ فارفع السماعة ولا تتكلم .. حتى تسمع صوتي .. لأنني سأتصل بك وأطمئن عليك بين الحين والحين
وبعد حين .. رن الهاتف ، فرفعت السماعة ، ولم أتكلم حتى أسمع صوت صاحبي ، فإذا بصوت نوري السعيد ينسل عبر الهاتف ، وهو لا يغيب عني .. يقول
– ” اعرف أنك لن ترد… وأنا لا أتصل بك لأقول لك إنني أعرف أين تختبئ… أنا أتصل بك لأقول لك: أما_ خوش _ قصيدة يا أبا فرات!!!
قال الجواهري : ضحكت .. لأن إعجاب نوري السعيد ببيان القصيدة وروعتها أنساه حقده عليّ ولكنني رغم ذلك غيّرت المكان .
** جواهري اللغة الفصحى
ويقول في ذم صحافة المتحذلقين الكذابين والمتنفعين شيء كالصحافة الشعبية
وصحافة صفر الضمير كأنها
سلع تباع وتشترى وتُعار
ومبصبصون كأنهم عن غيرهم
مِسَخ ٌ ومن أثامه ِ آثارُ
يتهافتون على مواطيء أرجل ٌ
يُومَىء لهم بكعوبها ويُشار ُ
** فليس غريباً أن بعضهم أبغضوه ألم يقل عبدالرحمن الرويس
(نجاحك إعتداء على الآخرين لإنه يفضح فشلهم )
يقول الجواهري فيهم
ما أغرب الجلف لم يعلق به أدبٌ
وعنده للكريم الحر تأديب
وصاحب السوأة النكراء أعوزه
كي يستر الناس ثوبٌ منه مسلوب
يامنطوين على بغضي لعلمهم
أني لدى الناس ،أني كنت محبوب
** قصائده نظم الجواهري في موضوعات شتّى، وأطال فيما نظم، فكان من أغزر الشعراء عطاءً . وقصائده على طولها تجدُها عرائسَ البلاغة العربية،
وأصبح الجواهري قِمةً للشعر، وسيبقى، فقال بعضهم : لم يولد شاعر بعد المتنبي إلا الجواهري، لأنه لا يَسَعُهُ الكَلِم، ولا يحدُّه زمان، ولا مكان ؛
– قال عنه الدكتور طه حسين : هذا شاعر العرب الأكبر، الآن بدأتُ استمع الشعرَ الشعر، ساعة إلقاء الجواهري قصيدته في الذكرى الألفية لوفاة المعرّي، حيث بلغ قوله :
– لحرية الفكر تاريخٌ يحدثُنــا بأنّ ألفَ مسيحٍ دونها صُلِبَـــــــا
** سر القبعة
تلك القبعة التى لم تكن لتفارق رأسه حتى أنها استرعت انتباه الجميع وأثارت الجدل، وفى ذلك ذكرت ابنته ” خيال الجواهري ” :
«أصيب والدي بنزلة برد حين كان يشارك في مؤتمر أدبي في الاتحاد السوفياتي السابق، ونصحه الأطباء بارتداء غطاء رأس لوجود حساسية في رأسه، فلفتت انتباهه قبعة مخملية كانت معروضة في حانوت المستشفى، فارتداها، ومنذ ذلك الحين بقيت تلازمه لحين وفاته، ولم يكن يخلعها حتى أثناء النوم
** والمبحر عبر روائعة تتملكه الحيرة أيها يختار فما أبلغ رائعته ” عينية الجواهري “
والتى تعد من روائع الشعر العربي الحديث وهى واحدة من أهم القصائد التي قيلت في الإمام
” الحسين ” ولروعتها كتبت بماء الذهب في مرقد الإمام الحسين بن علي
يقول فى مطلعها :
فِداءٌّ لَمثواكَ مِن مَضْجَعِ *** تَنَوَّرَ بالإبلَج الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنانِ *** رَوحًا، ومن مِسكِها أضوع
وتصل الروعة لذروتها حين قال :
كأنَّ يدًا من وراءِ الضريحِ *** حمراءَ مَبتُورَةَ الإِصْبَع
تَمُدُّ إلى عالمٍ بالخُنوعِ *** والضيمِ ذي شَرقٍ مُتْرَع
تَخبَّطَ في غابةٍ أطبَقَت ***على مُذئبٍ منه أو مُسْبِع
** فإذا ما انتقلنا رائعة أخرى من روائعه وهى ” تنويمة الجياع ” تلك القصيدة الفنية المتجددة نعم المتجددة والتى تصلح لكل زمان ومكان
فما أشد روعتها ما أجل حروفها حينما زلزلت أركان الظالمين وهتكت سترهم المزعوم واسقطت قناعهم الزائف ليظهروا أمام العامة (تنويمة الجياع). والتى آتت بأسلوب ساخر متنوع الأدوات والأساليب الفنية فلنبحر معه ببحر الكامل حيث يقول :
نامي جياعَ الشَّعبِ نامي حرسَتْكِ آلِهةُ الطَّعامِ
نامي فإِن لم تشبَعي من يقظة فمن المنام
نامي على زُبدِ الوعود يُدافُ في عسَلٍ الكلام
نامي تَزُركِ عرائسُ الأحــلام في جُنحِ الظلام
تتنوَّري قرصَ الرغيف كدورةِ البدر التمام!
وتَرَيْ زرائبَكِ الفِساحَ مبلَّطاتٍ بالرُّخام
**********
إنَّ الحماقةَ أنْ تَشُقّي بالنهوضِ عصا الوئام
والطيشُ أنْ لا تلجئي مِن حاكِميكِ إلى احتكام
الَنفسُ كالفرسِ الجَموحِ وعقُلها مثلُ اللجام
***********
نـامــي فـــإِنَّ صــــلاحَ أمـــرٍ فـاســدٍ فــي أنْ تـنـامـي
والـعــروةُ الـوثـقـــى! إذا اســـتيقـظـتِ تُـــؤذِنُ بانـفـصـام
***********
نامي تُريحي الحاكمينَ منِ اشتباكٍ والتحام
نامي تُوَقَّ بكِ الصحافةُ من شكوكٍ واتهام
يحمَدْ لكِ القانونُ صُنْعَ مُطاوِعٍ سلسِ الخُطام
خلِّ ((الهُمامَ!)) بفضلِ نومكِ يتَّقي شرَّ الهُمام
وتـجـنَّــبـي الـشُــبُـهـاتِ فـي وعـيِ ســيوصَمُ بـاجــتــرام
** والمتابع للقصيدة – يلحظ أن الشاعر قد جعل قضيّةَ معاناة الشعب قضيته الكبرى لذا اتخذ أسلوب الخطاب المباشر، من خلال استخدامه لادوات فنية معينة بالقصيدة كصيغة الأمر (نامي) مع أسلوب النداء،وإن حُذِف حرف النداء وهذا ينمّ عن تحفيز لذات المتلقي في أن يتنبّه لما هو فيه،ولما يجري حوله، ولما عليه فعله .
كذا نلحظ تنويع الشاعر لاستخداماته اللفظية والمعنوية لتتلائم مع أسلوب السخرية، فتراه ينوّع الشبع، شبع من النوم، لا من الطعام إنه شبع من الوعود لا من الحرية .. والنوم على المباهج، وما في ذلك من طلب الإخلاد للدعة والسكينة ولكنها مباهج الكذب التي كانت سهامًا قاتلة من ولاة الأمر :
نامي على تلك المباهــج لم تدع سَهمًا لِرامــي
أو دعوته للنوم لأجل التطلع الى الغَد المشرق، لكنّ الغد الموعود الذي لا يُرجى مجيؤُه، بل هو منصرم :
نامي جياعَ الشعب نامـي الفـجرُ آذنَ بانـصــرامِ
نامـي على مــهد الأذى وتوسّدي خَـــــدَّ الرُّغامِ
** ولم يغفل شاعرنا الأكبر المعاني الإسلامية،والألفاظ القرآنية، فوشى قصيدته وجملها ببعض مفرداتها ومعانيها فمن ذلك قوله :
نامي يُساقَطُ رزقك الموعو دُ فوقَكِ بانتظــــام
وقوله : نامي تَطُف حور الجنــان عليكِ منها بالمـــُدام
وقوله : نامي إلى يوم النشـــور ويومَ يؤذن بالقيـــام
تلك كانت رحلة حلقنا من خلالها فى أجواء رائعته ” تنويمة الجياع “
** أما عن وفاته
توفي الجواهري في إحدى مستشفيات دمشق سنة 1997 بع أن أثرى الحياة الأدبية على مدارعمر ثمانية وتسعين عاما ، يذكرأنه أقيم له تشييع رسمي وشعبي مهيب، تقدمته معظم القيادة السورية، حيث ورى الثرى في مقبرة الغرباء في السيدة زينب إحدى ضواحي دمشق، ونقش على قبره خارطة العراق المنحوتة على حجر الجرانيت، كتب عليها
” يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير ” كان لخبر وفاته صدى واسع بين العراقيين والمثقفين والأدباء من العرب — وهذا بعض حقه فقلد فارقهم بجسده فقط ” شاعر العرب الأكبر ومتنبي العصر وصناجة العرب في القرن العشرين” ومن الملفت للنظر أن مولده ووفاته في نفس الشهر، والفارق يوم واحد فقد ولد في السادس والعشرين من يوليو عام 1899 وتوفي في السابع والعشرين من يوليو 1997
٢ آخرين
.