طالعتنا الصحف منذ أيام بخبر القبض على المعلمين المتلبسين بممارسة مهنة التدريس خارج نطاق المدرسة
وتمت مصادرة أدوات الجريمة أقلام السبورة وأوراق وخلافه !
هذا الخبر ذكرني بعدة مشاهد ستكون ردا أرجو أن يكون وافياً كتعليق على الخبر :
المشهد الأول :
حكى أحد الأساتذة قائلا :
سألت زميلي الياباني ذات مرة :
– متى تحتفل بلدكم بعيد المعلم وكيف تحتفلون به؟
أجاب مندهشا من سؤالي :
” ليس لدينا أي عيد للمعلم.. ”
عند سماعي لجوابه بقيت في حيرة !
هل أصدق ما يقول أم لا ؟ وداهمتني فكرة :
” لماذا هذه العلاقة السلبية تجاه المعلم ومنجزاته في بلد متطور اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا” كاليابان ؟
وذات يوم بعد نهاية الدوام قدم لي زميلي الياباني دعوة ضيافة إلى بيته.
وبحكم أنه يعيش بعيدا عن موقع العمل، فقد ذهبنا إليه بالمترو،
وفي ساعات ذروة الزحمة المسائية كانت عربات مترو الانفاق ممتلئة حتى التخمة، وهنا بالكاد تمكنّا من الدخول إلى العربة.
فوقفت بجانب الباب ممسكا بالقائم المخصص.
وفجأة رأيت الرجل العجوز الذي كان جالسا على مقعد أمامي قد أخلى مكانه ويدعوني إلى الجلوس !
ولكني لم أفهم معنى هذا الاحترام نحوي من قبل رجل عجوز وأنا أصغره بكثير من السنوات !!
فحاولت الرفض ، ولكنه أصر على موقفه! فاضطررت للجلوس .
بعد الخروج من المترو طلبت من زميلي الياباني أن يوضح لي معنى موقف هذا الرجل العجوز .
ابتسم صديقي مشيرا إلى الميدالية التي أحملها على صدري قائلا :
” هذا الرجل العجوز رأى ميدالية المعلم المعلقة على صدرك ، وتعبيرا عن احترامه لك كمعلم ..تنازل لك عن مكانه ”
وبما أنني ذاهب للمرة الأولى في ضيافة صديقي الياباني في بيته فقد رأيت أنه من غير المقبول أن أدخل بيته خالي اليدين؛ فقررت شراء هدية.
وقد اشركت صديقي في مناقشة ما أفكر به، فوجدته مؤيدا للفكرة وقال إن أمامنا محلا تجاريا خاصا بالمعلمين حيث يمكن أن نشتري ما نريد بتخفيض يتميز به المعلمون.
ولكني هنا من جديد لم أتمالك نفسي:
” امتيازات يتمتع بها المعلمون فقط !
سألته في عجب ..
هز رأسه بالموافقة ،وتأكيدا لكلامي قال :
” مهنة المعلم في اليابان هي أكثر المهن احتراما، وأكثر من يحترم هو المعلم الياباني، كما يفخر أي تاجر ياباني إذا رأى معلما يدخل محله، ويعتبر هذا تشريفا له ولمحله !
خلال فترة تواجدي في اليابان لاحظت لمرات عديدة كيف يحترم اليابانيون المعلم بلا حدود :
توجد مقاعد خاصة للمعلمين في المترو وكل وسائل المواصلات.
المعلمون لا يقفون بالدور لشراء تذاكر المسرح أو السينما ،ولهم محلات تجارية خاصة.
وعندها تساءلت :
وما حاجة المعلم الياباني ليوم في السنة للاحتفاء به ..
ما دام كل يوم عنده عيد؟؟؟
نعود إلى مشهد القبض على المعلم المصري الذي ساقني إلى المشهد الثاني :
سأل المذيع العالم العبقري أحمد زويل رحمه الله قائلا :
أين مكانة مصر في خارطة التعليم العالمي ؟
فأجاب بتلقائية بدون تفكير :
“مصر ليست على الخريطة ! ”
وحين لمح علامات الدهشة على المذيع بادره قائلا :
إذا أردت أن تعرف موقع دولة ما من التعليم فانظر إلى مكانة المعلم .. وقس على مصر !
ويقفز إلى ذهني المشهد الثالث :
كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في حضور مئات من القضاة والأطباء والمهندسين وحينما طالبوها بإضافة زيادة لرواتبهم شأنهم شأن المعلمين الحكوميين الألمان الذين حصلوا على الزيادة فاكتفت ميركل بإطلاق جملتها المشهورة :
” كيف أساويكم بمن علموكم؟ ” واعتبرت تلك الجملة في نظر الكثيرين يومها درسا في الأخلاق .
المشهد الرابع
من مصر المحروسة :
معلم راتبه ٢٠٠٠ جنيه ويسكن شقة إيجارها ١٠٠٠ جنيه ولديه زوجة وثلاثة أطفال يحتاجون الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة ما يعادل ٤٠٠٠ جنيه شهريا
يعني بيت وأسرة تحتاج ٥٠٠٠ شهريا والمرتب ٢٠٠٠ جنيه
ثم نتحدث عن تطوير التعليم !
المعلم بضاعته علمه، ومؤهل من قبل كلية متخصصة لأداء مهمته كالصيدلي والطبيب والمحامي والمهندس والمحاسب .. فلماذا يسمح للطبيب (الذي يعمل بمستشفى ) يفتح عيادة والصيدلي (الذي يعمل صباحا في مستشفى أو شركة أدوية) ولا يسمح المعلم بزيادة دخله وهو أقل أصحاب المهن راتبا ولماذا يسمح للمحامي يفتح مكتب محامله جنبا إلى جنب وظيفته وقس على ذلك والمحاسب وغيره
..
بالمناسبة .. لماذا لم تقبضوا على الراقصة التي ترقص في كباريه ثم تقدم (نمرة) في فرح بفندق ؟
مالكم كيف تحكمون ؟
من الواضح أنً مجتمعنا لم ينضج إلى مستوى الدول الراقية وشبه الراقية أو حتى دول العالم الرابع تجاه من قال فيه الشاعر :
ومعلمٍ ليس يدري شارب كأسه
كيف يقطع من حشاه ويعصر ؟ !
في حين أنه لم يسلم في مجتمعنا من نظرات تشكيكية وهو الذي حمل على عاتقه تربية الجيل بكامله ليظهر لنا من يتعجب ويقول :
“ماذا يريد المعلم من المال .. المعلم صاحب رسالة ! ”
نعم اعترف معك أنه صاحب رساله ولكنه :
صاحب رساله وصاحب عيال في الوقت نفسه !
صاحب رساله وصاحب مرض ملازمه من صداع التعليم والضغط والسكر !
صاحب رسالة وصاحب ديون تلاحقه!
صاحب رسالة في مقابل صاحب بيت لن يرحمه إذا لم يدفع الإيجار …!
لا تنتظروا أي تقدم علمي في مصر طالما استمر تفكيرنا تجاه من علمونا بهذا الشكل المزري .