ليلة ماطرة ، لكنها دافئة نوعا ما ، أيام آذار تكاد تحتفي بانقضاءها ، الزرع بات يحتاج إلى الماء كي يسرع بنموه مع شمس نيسان الآتية على مهل …
أبو هاشم رجل مازال لم يبلغ الأربعين من العمر ، أبيض البشرة ، عريض المنكبين ، شعره أسود جميل ، أما عيناه فكانتا القصة التي تتغزل بها نساء القرية ، على الرغم من زواجه من ( زهيرة ) منذ أكثر من خمسة عشر عاما إلا أنه لم يرزق بطفل حتى الآن ، وربما لن يرزق فيما بعد …
فقد أخبره الطبيب في آخر زيارة بأن ( عاقر ) ، يومها ضحك أبو هاشم ملئ شدقيه …
_ وماذا أفعل بالأولاد … هم فقط عالة و هم علينا …
_ لكنني أريد طفلا يا أبو هاشم …
_ إذن تزوجي علي … هااااااا هاااااا … هكذا كان رده على أم هاشم حينذاك .
كانت زهيرة امرأة طويلة نحيفة ، سمراء الوجه ، غائرة العينين ، تدخن بشراهة ، ذات يوم قالت له أمه ( كيف اخترت هذه المرأة … الله يجعلها مرآة … وكل النساء تتمناك ) …
في تلك الليلة كان موعد أبو هاشم مع سقاية حقله من القمح ، أخبره ناطور النهر بأن دوره ربما يكون بعد منتصف الليل ، جهز زوادته ، ومعطفه ، وأشياء أخرى يحتاجها ، وضعها في سلة دراجته ( التراثية ) وقبل مغيب الشمس بقليل انطلق إلى الحقل ، لدى خروجه إلى الحارة شاهدته جارته الجميلة ، امتصت شفتيها ثم توارت عن عينيه …
انساب الليل بهدوء ، صرخ أبو سمير ( نديم أبو هاشم ) :
_ أين زوجك يا زهيرة …
_ ذهب يسقي الحقل … دورنا الليلة بماء النهر …
_ ولماذا لم يخبرني كنت ذهبت معه … قاتله الله …
_ هل أبو أكرم هنا …
_ أعرف بأنه هنا …
أبو أكرم الشقيق الأكبر لأبي هاشم ، ومع أبو سمير ، وأبو عمر ، يشكلون ( شلة الورق ) …
مضى الوقت سريعا ، لم يأبه لانتهاء اللعبة ، ومضى معه اليوم التالي أيضا ، ومازال أبو هاشم في الحقل ، كان يجب أن يعود إلى بيته قبل غروب شمس اليوم التالي ، لكنه لم يفعل ، ربما تأخر في استلام الماء ، أو أن الأرض عطشى أكثر مما يجب …
انتظرته الجارة خلف النافذة حتى غرق المساء بالظلام ، لعنت حظها العاثر ثم عاودت عملها في المطبخ …
فتحت أم هاشم عينيها ، كان الوقت قريبا من الفجر ، لم يكن أبو هاشم بجوارها …
ارتدت وشاحها الأسود ، خرجت مسرعة إلى بيت ( سلفها ) أبو أكرم ، كان صوتها يسبقها .
_ أبو هاشم لم يعد حتى الآن …
_ أخي لم يعد من السقاية ، ما الذي أسكتك حتى الآن يا امرأة …
كان أبو أكرم يتلعثم بكلماته وهو يرتدي ثيابه ، بينما أرسل ابنه في طلب أبو سمير وأبو عمر …
مروا سريعا من فوق الطريق المتعرج ، الحقل كان بعيدا عن القرية ، تبادلوا كلمات كثيرة ، كان محورها ( أبو هاشم ) …
ولم يخل من شتم تلك المرأة الطويلة النحيفة ( كقصب بربار )* …
الفجر حل منذ قليل ، الرؤيا باتت واضحة ، لاح شيء ما في الحقل …
_ إنه أخي أبو هاشم … صرخ أبو عمر …
كان أبو هاشم يضع رأسه على يده في جلسة معتادة عند الفلاحين ، بينما كانت المياه تحيط به من كل جانب …
وقف الرجال الثلاثة على مقربة منه …
_ لعنك الله يا زهيرة … قال أبو أكرم …
_______
٦ رمضان ١٤٤٠
#قصب #بربار : هو نوع من العيدان الطويلة النحيفة التي كان اهلنا يستخدمونها في سقف البيوت وبناء الاكواخ …