غبار العصر يملأ المكان ، الشمس تكاد تختفي خجلة خلفه ، الرياح تهب شرقية متأزرة بوشاح صحراوي …
المشيعون يصلون للتو ، كبار ، شباب ، صغار ، ونساء سلمن أمرهن لله وبقين بعيدا ، فلا يجوز لهن أن يصعدن إلى المقبرة …
النواح يلسع أذناي ، امرأة عشرينية فقدت غطاء رأسها ، فبادرت أخرى كي تغطي شعرها الذي أصبح كمزرعة ، مملوء بالتراب وبالغبار …
كان الخال أبو نبيل يقف بالقرب مني ، رجل في آواخر العقد الرابع ، متوسط القامة ، أسمر البشرة ، أجرد الرأس سوى من عدة شعرات تمردت على موسم الحصاد ، بينما لحيته كثة غير مرتبة ، عينه اليسرى غادرت وجهه منذ أن كان في السابعة من العمر ، يومها ضربه أبوه بقضيب صفصاف طري ، فأصاب عينه ، وهاجرت إلى غير رجعة …
كان الخال أبو نبيل صاحب نكتة بين الناس ، يقضي أيامه بسخرية ، ومع كل هذا إلا أنه كان قاسيا جدا مع زوجتيه وأولاده ، لا يعرف معنى الرحمة عندما يخطئ أي منهم …
عندما شاهدني أومأ إلي ، فتركت مشهد القبر واتجهت نحوه ، أعلم بأنه كان يحبني جدا رغم فارق السن بيننا ، كان يطلق علي ( زعيم العيلة ) ، طبعا بلا كرسي ، فهناك زعيم للعائلة مازال على قيد الحياة …
قبلت يده كما اعتدت ، مسحت الغبار المتراكم على ( صلعته اللامعة ) ، أمسك بيدي وشد عليها بطريقة غريبة ، عندما التقت عيناي بعينه ، كانت الدموع تقطن هناك ، عرفت بأنه تذكر ولده الشاب ( محمود ) الذي قضى نحبه في العام الماضي بحادث ( دراجة ) تاركا لأبيه زوجة وثلاثة أطفال ، كان يقف فوق رأس قبره …
_ هون عليك ياخال … كلنا سنكون هنا يوما ما …
_ كيفك يا ( ….. ) …
_ الحمد لله يا خال … ماشي الحال …
_ هل أنهيت الدراسة الجامعية … ألم تصبح محاميا بعد …
_ بعد بكير ياخال …
_ إياك أن أسمع بأنك رسبت ، فأنت الزعيم ياولد … جدك سيموت قريبا …
نظر إلى المشيعين ، أصبحت الجثة في القبر ، بعضهم يخلط الماء بالتراب ، أمسكني من رقبتي وشدني إليه …
_ سيموت … نعم سيموت … يكفيه لقد قطع المئة … ( أي يعني بدو يخلد ) …
_ الله يطول بعمره ياخال …
_ أي … الله يقطع عمره … أخذ عمره وعمر غيره …
ابتسمنا معا هذه المرة ، شدني إليه أكثر ، شعرت بحنان لم أشعر به من قبل …
كان الرجال يستعدون لردم القبر ، جلس الجميع ، جلسنا نحن أيضا …
_ اسمع يا خال …
_ عندما أموت ادفنوني هنا ( أشار إلى مكان بجانب قبر ( محمود ) … كان ضيقا لا يتسع لقبر جديد …
_ لكن المكان ضيق ياخال …
_ لا يهمني … دبروا الأمر …
_ وهل تظن بأنك ستموت غدا ..
_ لا أدري … لكني أعرف بأني سأموت قبلك …
_ العمر الطويل يا خال … مازلت شابا … لديك زوجتين … ههههه …
_ فليذهبن إلى الجحيم من بعدي … هذه وصيتي لك ياخال … ولف رقبتي بيده الخشنة وربت عليها ( برقبتك أسمعت ياولد ) …
انتهت مراسم التشييع ، صوت الشيخ صمت فجأة ، غيوم تراكمت في السماء ، لحظات فقط وكان المطر يتساقط بغزارة ، دوما بعد موج الغبار يهطل المطر لكنه كان أحمر اللون …
_ هيا يا خال … سنشرب الشاي عندي في البيت …
_ لكني سمعتهم يعزمون على الغداء هدية لروح المرحوم …
_ ما بتعرف أني ما بأكل من طعام الميت ياولد … هيا …
تركنا جمهرة الناس وركبت خلفه على الدراجة النارية ، المساء حضر الآن ، المطر عاود الارتفاع ، إنه مساء جميل رغم الألم ( قلت في نفسي ) …
سنة واحدة تمر من هنا ، غادرنا جميعا القرية عنوة ، كدنا ننسى المقبرة ، والأشجار ، والدروب الطينية ، والملعب الترابي …
منذ يومها لم أر الخال أبو نبيل ، فقد أصبح كل منا في منطقة ، والتنقل صعبا للغاية ، فكنا نخشى كل شيء بلا استثناء اذا ما قررنا الذهاب إلى مكان ما …
رن جرس الهاتف المحمول ، ظهر لي ( الخال يتصل بك ) …
_ آلو أهلا بالخال …
لكن المفاجأة كانت أن صوتا أنثويا شاحبا على الطرف الآخر .
_ أنا نبيلة يابن عمتي …
_ مابك … صوتك ليس على مايرام …
أجهشت بالبكاء ، لم أعد أسمع صوتها الذي اختفى مع دوي انفجارات قريبة .
_ أين الخال … ما الذي حدث …
صمت الهاتف ، عاودت الاتصال ( الرقم المطلوب مغلق ) …
_ يا إلهي الوصية … الوصية …
________
ه رمضان ١٤٤٠