بقلم الدكتور/ علي عبد الظاهر الضيف
بينما يتنقل سائق الباص في طريقه من محطة إلى أخرى، توقف بإحدى المحطات ، وإذ براكب عملاق مخيف يصعد و كأنه بطل كمال أجسام ومن نراهم في حلبات المصارعة الحرة ، وعلى وجهه علامات الشر قد تركت على وجهه آثار المشاكل !
فسأله السائق عن التذاكر.. فأجاب بصوت مخيف هادر والشرر يتطاير من عينيه :
المعلم (ميمي) مبيدفعش تذاكر!
فتركه السائق على استحياء وتابع طريقه ، وفي اليوم التالي ركب نفس العملاق ونظر إليه السائق برعب وسأله نفس السؤال بنبرة مرتعدة . . فأجابه العملاق بغلظة :
المعلم (ميمي) مبيدفعش تذاكر.
وتكرر هذا المشهد مرات ومرات.. نفس السؤال ونفس الإجابة، دون أن يجرؤ السائق أن يطالبه أو يفكر مجرد التفكير في مناقشة العملاق…
فارق النوم عيني السائق وأصابته الكآبة والخجل من نفسه ومن الركاب الذين ينظرون إليه على أنه جبان، فبدأ يتغيب عن العمل في محاولة منه للهروب من المشكلة، ولكنه قرر أن يواجه نفسه ويتحداها ، فذهب بجسمه النحيل وقامته القصيرة الى أحد مراكز التدريب، وسجل نفسه في دورات تدريب كمال أجسام ،كونغفو ، جودو وكارتيه ، ومضت أشهر وهو يكافح ويناضل من أجل تحرير نفسه من الخوف حتى أتقن كل فنون الدفاع عن النفس ونال منها أشكالا من الميداليات وألوانا من الأحزمة… !
حانت لحظة المواجهة مع المشكلة .. عاد الى عمله المعتاد واتجه الى نفس المحطة ، وهو يبحث عن هذا العملاق وما إن صعد المعلم ميمي الباص حتى نهض السائق وسأله بنبرة تملؤها الثقة بالنفس :’
تذاكر .. فأجابه العملاق بنفس الطريقة : المعلم (ميمي) مبيدفعش تذاكر ..
وبكل غضب وعنف وقسوة أمسك السائق بقميص العملاق من رقبته وسط ذهول الركاب وصاح بصوت عال وعينين تشتعل منهما النار :
المعلم (ميمي) مبيدفعش تذاكر ليه يعني .. أنت أحسن من الناس دي في إيه ؟؟
فأجابه العملاق بصوت خافت …
المعلم (ميمي) معاه اشتراك !!!
المشكلة هنا هي عدم التأكد من وجود مشكلة قبل بذل أي مجهود لحلها لذلك كانت بدايات التفكير العلمي لحل المشكلة هي الإحساس بوجود مشكلة ثم تحديد تلك المشكلة ..
أضعنا وقتا طويلا في اتجاه بعيد تماما عن الحل مع أنه كان من السهل في البداية تحديد سبب المشكلة مع المعلم ميمي .. انظروا كيف نفتقد الرؤية في حل المشكلات، رغم أنه فكر في الحل وسار في خطوات منظمة، لكنه للأسف الشديد ابتعد تماما عن مسار المشكلة الحقيقية التي كانت ستحل ببساطة من البداية بمجرد سؤاله عن السبب.
إذا أردت حل أي مشكلة فعليك أولا بخطوات التفكير العلمي لحل أي مشكلة وهو في أبسط صورة يتلخص في :
• الإحساس بوجود مشكلة
• تحديد المشكلة التي تعانيها
• معرفة الأسباب والمظاهر لتلك المشكلة
• وضع الفروض لحل المشكلة
• تجريب كل فر ض
• الوصول إلى الحل من خلال أفضل فرض جربناه
هذا هو التفكير العلمي، ولكن أين هو على أرض الواقع ؟ هل هو مفعل ونسير عليه ؟
في الحقيقة أن شعبنا ألغى كل هذه الخطوات واختصرها في كلمة واحدة : الحل هو السخرية !!!
يقول أحدهم :
وجدت في معرض الكتاب كتابا عنوانه (كيف تحل 50% من مشاكلك)
فاشتريت منه كتابين !
أعجبتك النكتة ؟
لا أخفيك سرا أنها أعجبتني أيضا لأنها تحمل السخرية التي تلطف على القلوب وتسري عنه بعض ما فيه من أعباء أثقلت القلب وحملته بما لا يطيق .. السخرية أصبحت كالأفيون يخدر الفرد حتى لا تضج نفسه بما يكاد ينفجر بداخله .
الشعب المصري حار فيه جميع علماء الاجتماع وعلماء النفس ووقف الكثير حياله عاجزين متعجبين .. ومن أهم ما فشلوا في تفسيره ذلك الذي يتبلور في السؤال الآتي :
لماذا تكثر السخرية في عز الأزمات وأحلك الظروف والأوقات حتى أصبحت خصيصة من أهم خصائص شعبنا العظيم؟
الشيء العجيب في الموضوع ان ذلك الشعب منذ عهد مينا حتى الآن صامد، رغم كل ما مر به من ظروف صعبة ويتأقلم بشكل سريع جدا مع المستجدات ..
إليكم تفسير العبد لله لهذه الظاهرة :
في الحقيقة شر البلية ما يضحك ونحن نضحك على شر بليتنا !
نعيش على مبدأ الضحك للنسيان كالمخدرات.. حين تفشل وحين تعجز وحين تفقد الحيلة ..
تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بسخرية مريرة تخرج من القلب في صورة مياه باردة من رحم نيران داخلية تغلي في القلوب وتنفث غضبها في بوتقة من الخوف فلا يخرج إلا الغضب البارد المازح الذي ينضح سخرية يضل الغضب طريقة فلا يخرج إلا على ابتسامة صفراء ترتسم وسرعان ما تخبو ليحل محلها حقد دفين وألم صامت ..
نلقي بالألم في اللاشعور ونقذف به في دواخل النفس الحزينة لنمثل دور الصامد الثابت حتى إذا خلا كل منا بنفسه صبّ جام غضبه عليها ،ويكاد يخنقها حقدًا وكمدًا .. يمسك بتلابيب نفسه ليكيل لها الاتهامات والشتائم والضربات .
ثم يجهش بالضحك !
هذا هو تفسيري للظاهرة ..
ولكن .. هل تصبح السخرية (سلاح العاجز) هي الحل ؟
أترك الإجابة لكم ..