إن أىّ مهنة مهما كان حجمها وأهميتها لابد أن يكون لها إطار أخلاقى تدور فيه، ويمثّل هذا الإطار فيما بعد المنطلق لصياغة قواعد هذه المهنة والالتزام بها من جانب من يعملون فيها، ومن المهنّ التى أصبحت تشكل جزءاً كبيراً من التأثير فى حياة الناس، مهنة الصحافة، التى منذ أن دخلها تجار وكالة البلح وسيّطر عليها النخب الرأسماليّة وهى تنحدر إلى درك سحيق من اللاخلاق واللامهنية، فعلى حسبّ وضع الصحافة فى أى بلد تستطيع أن تعرف مدى المستوى الثقافى والأخلاقى لهذا البلد، واللغة السائدة فى تناول أخباره وشئونه اليومية، ومساحة الحرية التى يسمح به النظام الحاكم لمختلف الفرقاء فى التعبير عن رأيهم، وبما أنّ ليس هناك صحافة موضوعيّة تلتزم بالحد الأدنى من معايير ومواثيق المهنة خاصة فى دول العالم النامى، سوف ترى ما لا يمكن لعقلك أن يصدّقه من افتراء وكذب وتشويه لكل صور الفضيلة والحقائق والمتاجرة بالدين والوطن وإسقاط رموزه، حينئذ ستقف مذهولاً أمام هذا الكمّ الهائل من الانحراف وتسأل نفسك سؤالاً هل هذه فعلاً مجتمعات مسلمة.؟
فى عام 1945 كتب الصحفي الفرنسى ألبير كامو فى جريدة معركة قائلاً : إن أى إصلاح أخلاقى للصحافة سيصبح بلا جدوى إذا لم يصاحب هذا الإصلاح إجراءات سياسية خاصة تضمن للمؤسسات الصحفية استقلالا حقيقياً فى مواجهة أصحاب رؤوس الأموال الذين يوجّهون سياسات هذه الصحف بما يخدم مصالحهم السياسية والاقتصادية”
بالأمس خرجت عليّنا جريدة مقعدة وكتبت عنوان لا يليق عن زيارة مسئول سعودى بارز، يضعه فى مصاف الآلهة دون أى حُمّرة خجل، وبما أنها جريدة صفراء منذ أن نشأت وحتى الآن لاعتمادها الدائم على مثل هذه العناوين الشيطانية فى تناول أخبارها، إلا أن ما يزيد الأمر غرابة أن القائم على رئاسة هذه الصحيفة رجل أكاديمي ومعلّم أجيال ويعرف جيداً التشريعات والقوانين الخاصة بمهنية الصحافة والإعلام مما يجعله أكثر حيطة ومهنية من غيره، والأكثر غرابة أنه كتب فى نفس العدد مقال رأى يحمل نفس العنوان مما يؤكد أنه هو صاحب فكرة هذا العنوان المستفز، لكن أودّ أن اسأله سؤال، هل يجوز رجل فى مكانتك الأكاديمية أن يلجأ لمثل هذا النوع الرخيص من الدعاية؟ هل هذه هى الأخلاق المهنية التى تعلّمها لطلابك فى الجامعة؟ وهل الدافع وراء هذا الخطلّ هو المهنية أم حاجتك لتكون حديث الساعة وكى ترتفع أرقام التوزيع لصحيفة وزيادة عدد الزوّار لبوابة الصحفية الإلكترونية ، أم أن المال ومحاباة السلطة جعلك تشترى ودّها بهذه السقطة التى ليست إلا نفاقاً وتملقاً لمسح ذيل السلطة والبحث عن فتات موائدها.
لقد جاوز المرجفون المدى وساهموا فى هتك عرض المجتمع الأخلاقى حتى تهاوى وتحول الى مقلب من النفايات البشرية التى تعيش على الكذب وقلب الحقائق، حتى أصبحوا من فرط الدجل والنفاق يتديّنون بهما فى مواقفهم وسلوكياتهم بعدما سُرقت عقولهم وماتت ضمائرهم فتحول الكاذب عندهم صادقاً، وصار السارق أمينا شريفاً، إن مثل هذا الآفّاك لا يمكن أن يتخرج على يديه إعلاميين ذات مصداقية مهنية وأصحاب رسالة أخلاقية، لكن من سيحاسبه على هذا التلوث المهنى الذى سمّم عقول الناس وجعلهم يآلفون التجاوز فى حق الله ومن قبله الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فمن آمن العقوبة أساء الأدب، وهؤلاء أساءوا كثيراً للدين والوطن بدءاً من إبراهيم عيسى حتى ذلك الفسلّ.
لم تعد هناك كلمات تصف هذا التهريج الذى يحدث سوى ما قاله الكاتب الفذّ الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فى مقال له بعنوان “صعاليق الصحافة” يقول فيه :”لو كان هذا الكلام الذى فى الصحافة شيئاً آخر غير الحروف لما كان إلا ذباباً يطير فى وجه قارئه” فمتى ترحمونا من هذا الذباب الذى سمم حياتنا وأساء لسمعة بلادنا؟.