كتب/ محمد مأمون ليله
كان الشيخ من أكابر علماء عصره في علم الحديث، وأحيا الله على يديه قلوب كثير من طلبة العلم؛ فأقبلوا على هذا العلم المبارك، ولم تكن الكتب والمراجع العلمية في أيام الشيخ متوفرة كحالها اليوم، لكنه جد وتعب في قراءة كثير من الكتب والمخطوطات في المكتبة الظاهرية، وتميز بسعة النقل منها، مع جودة التخريج والاطلاع وتسهيل المعلومة.
نعم؛ كثيرا من الأحاديث – خاصة الأحاديث التي صححها – قد حكم عليها بما يخالف أحكام أهل النظر من المحدثين، وهم الأئمة النقاد الكبار كأحمد وابن المكيني والبخاري، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وهذا يفعله غالب المتأخرين، وهو ليس على مدرسة أهل النظر أصلا، فلماذا ينقمون عليه، ولا ينقمون على شيوخهم؟
وبعض الباحثين يسرقون تصحيحات الشيخ الألباني وينسبونها لأنفسهم، ثم هم بعد يجهّلونه ويتكلمون عليه وينتقصون منه، وكثير من طلبة العلم اشتهروا واغتنوا بنسبتهم إلى الشيخ، وتطفلوا على كتبه، وأقبل الناس عليهم لأنهم من تلامذته.
نعم، تصحيحات الشيخ الألباني – رحمه الله- فيها نظر كتصحيحات أكثر المعاصرين، وهذا بمقارنة تصحيحاتهم وقواعدهم بتصحيحات وقواعد أهل النظر من المحدثين؛ فلا يُرفع الشيخ فوق منزلته، ولا يحط من قيمته، فإذا كنا ننقم عليه لما نأخذه عليه من أخطاء، أو مخالفة اجتهاد؛ فكذلك غيره.
ولا ينكر فضل الشيخ الألباني – رحمه الله- أحد من المنصفين، وهو في علماء عصرنا كالشمس لا تُنكر، وهو مع أهل النظر من القدماء إذا قورن لا يُذكر.
وعلى من يريد أن ينتقده، أن لا يقارنه بمنهج أهل النظر من المحدثين من أئمة الحديث الكبار؛ لأنه أول من سينتقد لمخالفته هو أيضا لمنهجهم، ولكن تعرف مدرسة الشيخ أولا، هل هي مدرسة ابن حجر، وقبله مدرسة ابن الصلاح، أم مدرسة الحاكم، أم ابن حبان، أم الذهلي، أم غيرهم، وعلى هذا الأساس تنتقده لمخالفة مدرسته.
أما مقياسنا الذي نعتمده مع الشيخ الألباني وغيره، فهو قياس أحكامه وقواعده على أحكام وقواعد أهل النظر من المحدثين؛ فإن وافقهم فبها ونعمت، وإن خالفهم لم نعتمده فيما خالف؛ لأن الأمة اتفقت على إمامة أهل النظر الذين يرجع إليهم في التصحيح والتضعيف والعلل كأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن المديني، وشعبة، ومالك، وسفيان الثوري، وابن المبارك، والبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وأبي زرعة.. ولا نتكلم علي المخالف إلا اضطرارا، والضرورة تقدر بقدرها، ومع ذلك نحترمه ونوقره، ونقر له بعلمه، ونستفيد من كتبه، ونجله وننزله منزلته.
وكل نقد يوجه للشيخ الألباني يوجه معظمه إلى أكثر الشيوخ المعاصرين الذين ينقمون عليه، فإن حاسبتموه على منهج أهل النظر من المحدثين، فوجهوا كلامكم إلى أنفسكم أولا:
1- إن قلتم: أنه ليس على منهجهم في السماعات؛ فكذلك أنتم، وإن قلتم أنه على منهج الإمام مسلم وتوسع؛ فكذلك أنتم ، مع العلم أن الإمام مسلما لم يطبق شرطه إلا على تسع أحاديث فقط في صحيحه، ولا تمثل هذه التسع منهجية له، وفي ذلك قضايا مهمة ذكرتها في كتابي المقالات التجديدية لبيان مدرسة أهل النظر الحديثية.
2- وإن قلتم: يتوسع في التصحيح بمجموع الطرق الضعيفة دون ضوابط؛ فكذلك أنتم، بل أنتم إذا التزمتم بضوابكم؛ لوصلتم إلى قاعدة أهل النظر التي لا تسيرون عليها ولا يسير عليها.
3- إن قلتم يحكم على الرواة كثيرا بظواهر الأقوال دون سبر، فكذلك أنتم، وهناك بعض الطرق التي كان يتبعها أهل النظر لم يععد في مقدوركم فعلها، فضلا عن عدم إمكانية السبر بالطريقة المتقنة التي كانوا يفعلونها.
4-إن قلتم: يخالف أئمة النقد في كثير من الأحكام على الأحاديث؛ فكذلك أنتم، ومجرد المخالفة لا يطعن فيه، ولا ننكر الاختلاف، فقد يكون فيه مصيبا، وقولكم هذا يوصل إلى غلق باب الاجتهاد الذي أنكرتموه على ظاهر ما فهمتموه من ابن الصلاح، ولتُلزم الشيخ بالخطأ ينبغي أن تكون قواعده هي نفسها قواعد أهل النظر؛ لتقارن أحكامه بهم، وأن يكون متبنيا لكل قواعدهم ومدرستهم، وليس هو كذلك، ولستم كذلك أيضا.
ولا يقاس أحد من المتأخرين بأئمة النقد الكبار، وليس أحد من المعاصرين متمكنا في العلل كما كانوا، وقد سئل أبو حاتم عمن يستطيع أن يميز صحيح الحديث من سقيمه ويدرك العلل؛ فأشار على أبي زرعة، فقيل له: فغير هؤلاء تعرف اليوم أحدا؟ قال: لا!
وإن قلتم: نستطلع أحكام المتقدمين على الأحاديث قبل أن نحكم؛ فأقول: ومن قال أن المتقدمين كانوا على نفس المنهج؟ بل فيهم المعتمد وغير المعتمد، والمعتدلين وأصحاب التسهيل، وهل وصلتك كل كتبهم؛ لتعرف أحكامهم؟ بالطبع لا.
ومن هنا لزمك أن تعرف قواعدهم؛ لتقيس على أحكامهم مثلها، مع عجزك عن الوصول إلى مستوى علمهم وحفظهم، وليس كل من ملك القاعدة يستطيع تطبيقها.
فلماذا تنقمون عليه، ولا تنقمون على أنفسكم وعلى شيوخكم؟
وعلم الحديث النبوي ما هو إلا مدارس، تحترم ويحترم شيوخها، ويستفاد منهم، وأعلى هذه المدارس اتفاقا مدرسة أهل النظر من المحدثين، ودعك من قول بعض المعاصرين الكرام بما أسموه: منهج المتقدمين والمتأخرين، ففي المتقدمين من لا يعتمد عليه، وعلم الحديث له طبيعته الخاصة التي لا يستطيعها كل محدث!
ومهما بلغت من أدوات؛ لن تستطيع في ما هو موجود الآن أن تكون مثلهم؛ لعدم توفر وسائل بحثية لديك كانوا يستعملونها، فضلا عن الحفظ والديانة والفهم وحضور مجالس التحديث، ولقيا الشيوخ ومعرفة التلاميذ.. فكيف تدعي انك تكون في مستواهم، وعندك نفس ما عندهم من الإمكانيات؟
ولهذا قال أبو حاتم: الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه، وعنده تمييز ذلك، ويُحسن علل الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك. فقيل له: فغير هؤلاء تعرف اليوم أحدًا؟ قال: لا.
وقد تتابعت كلمات علماء المدارس الأخرى قديما وحديثا على إمامة علماء مدرسة أهل النظر من المحدثين، وشهدوا لهم بالتمكن والرسوخ، مما يدل على أن هؤلاء هم المقياس والأساس الذي تحاكم إليه تطبيقات وقواعد كل المدارس!
وأهل النظر من المحدثين لا يضيقون حرجا بالمدارس الأخرى، ولا يطعنون فيهم، ويحترمون الخلاف، ويتعايشون مع المخالف، ويتعايش المخالف معهم بكل هدوء.
وينظر على الإنترنت: مقالات تجديد مدرسة أهل النظر من المحدثين، ومقالات التوضيحات العقلية لقواعد مدرسة أهل النظر الحديثية، وكتب الشيخ المحدث أحمد بن عبد الستار النجار؛ ففيها خير كثير بإذن الله تعالى.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.