محمد فتحي
يعتبر الفنان”الدكتور خالد نصار”أحد أبرز الفنانين العرب الذين حلقوا فيسماء الإبداع وجعلوا فنهم جواز عبور يكسر الحواجز ويستشرف تجارب الفن والحياة..أقام مسيرته على البحث والاستكشاف..وهو ما جعلها تجربة ثرية بالإبداع تستبطن مشروعه وتبشر بملامحه ومساراته المستقبلية ..ولوحته “دوامة الحياة ” تمثل إحدى أعماله أنجزها في مرحلة البدايات لتمثل إحدى بواكير نضجه . وتعتبر محطة هامة في انبلاج مساره الإبداعي وصياغة رؤيته الجمالية، بهذا فقيمة هذا العمل الباكر مثل أولى اللحظات الكبرى في تكوين شخصيته الفنية وتأسيس مشروعها… ولعلنا ندرك بعض ملامحه من خلالها ..في محاولة لرصد هذه الحركة الإبداعية ومواكبة حركة الفرشاة التي بدت في هذه اللوحة وغيرها من أعمال الفنان بمثابة سعي نحو ملاحقة سيرورة تكون الشكل على فضاء اللوحة ، نكاد لاندركها لو لم تكتف بتشكيل المدلول في لحظة إبداعية ما ..بهذا سنحاول استقراء اللوحة ومن ورائها نستقرئ الذات المبدعة وهذا ما يؤجج التفاعل مع هذا العمل .. وينقل الرسام من سجل إبداعي إلي سجل تقريري ، تفصح ألوانه وخطوطه وأشكاله عن مخبوء ذاته ودياجيرها العميقة .. ومن ثمة يتحول من كائن يرسم إلى كائن يتكلم.فتتحول بذلك اللوحة إلى مرجعية لما هو حميمي ونفساني فيه ..ومعه يتحول هذا العمل الفنيمن عالم مرئي إلى فضاء نفسي سلوكي ، ومن بنية وعي ظاهر إلى منطقة سرية غير متشكلةظاهراتيا ..
تأخذ اللوحة شكل مستطيل يمتد أفقيا..وما يجلب اهتمامنا فيها هذا العنصر الذي تتجه إليه العين مباشرة في الصورة وقد توسطها ، وتناثرت عناصره على جنباتها بشكل انتشاري . انطلق من السمك في قطب اللوحة وعمقها . فتتدفق الألوان تدفقا في حركة انسيابية لتعلن عن دفقة شعورية تلفظها نفسه قبل أن تلفظها ألوانه..ثم تتداعى لتتشكل لمسات سريعة وبقعا هائمة تختزل إيقاع الأشكال وحركاتها ..وهي مستطيلات تناثرت أشلاؤها وغابت ، مراوحا في ذلك بين التوزع الاعتباطي والتركيز على كتلة رئيسية مثخنة ، لعلها محاولة لتفجير هذه الكتلة وتلاشي العناصر الجزئية فيها ..مما يجعل من اللمسات ، لمسات حادة وخفيفة شفافة في إطار وصل الكتلة المركزية مع الأرضية ، وهذا ما أوجد مواد دخيلة على الدهن الزيتي في جنبات اللوحة ..لعلها تعود إلى طبيعة القماش ونوعيته ، استغله الرسام ليحدث تناسقا بين فضاءين ..فضاء أمامي وهو ما تظهره عجينة الدهن ، وفضاء خلفي وهو الذي يمثله القماش ..بهذا نكون أمام ثنائية الفضاء والكتلة ..وقد بدا هذا الفضاء بمثابة شبكة تترامى على اللوحة لتدلل على معنى السجن والقيود ..لكن الفنان يدور في أعطافها وجنباتها في أشكال مثلت بالنسبة إليه سجنا تنضاف إلى سجونه الأخرى ..لعلنا بذلك نلج إلى أعماقه ..حيث يفصح هذا التشكل عن صراع يعيشه الفنان ..فقد اتسع فيه اللون الأحمر القاني ، وهو من الألوان الحارة التي توحي بالحضور الملحمي ، إنها ملحمة الواقع الذي يرزح تحت وطأته ويواجه الصراع .. ومن ثمة يفصح عن صورة الوطن الجريح النازف بالمحن ..إنها صورة تنبجس منها نغمة شجن وحكاية قهر ومعاناة .. هي حكاية الفنان في علاقته بذاته وبالمحيط الخارجي ..فالحدث الذي يحيط به حرب وقتل ودمار تعيشه البلاد خاصة بعد موجة الثورات العربية التي اشتد سعيرها في المنطقة العربية..وكان لها بليغ الأثر على الداخل الفلسطيني وخاصة الحصار الذي شهدته غزة والذي أعاق مسيرة الدكتور خالدنصار كمواطن فلسطيني أغلقت في وجهه منافذ الحياة..وكفنان أقبر فنه وأعيق عن الخروج إلى المحيط الخارجي وإعلانه في معارض خارج الوطن ..بهذا فهو يعيش الإحباط والكبت الفني حين يعجز عن إيصال أنغام ألوانه التي تجيش بها نفسه المثقلة بعذابات الوطن ..وقد عبر عن ذلك بالشكل اللولبي الذي ينتمي إلى الكتلة التي تتوسط اللوحة ..وينطلق من الأسفل إلى الأعلى ، ومن القاعدة إلى الارتفاع ..وقد بدا الشكل بمثابة لمسات سريعة ..وقد نتخيله هنا في لحظته الإبداعية ..لحظة الرسم ..بم كان يفكر ؟ وكيف يرسم ؟ قد نتخيله بحركة سريعة فيها الكثير من الغضب والانفعال ..يلقي ألوانه جزافا بطريقة عشوائية ..فيجعل الريشة تسير على غير منهج..لا شيء يحركها سوى نفس ممحوقة ، مرهقة بفجيعة الحاضر وضبابية المستقبل ..بل قد تكون أداة أخرى من أخذت وظيفة فرشاته، خاصة في رسم الشكل اللولبي..لعلها أداة حادة، وكأنه يحاول أن يخدش بها القيود التي تكبله، ويقطع أوصالها..ولكن عبثا يحاول الخروج من دوامة الواقع وهذا الحصار الذي يتجاوز قدراته ، ليكون الصراع الداخلي بين مطلق الإرادة وحدود الإمكان ..ولو دققنا النظر وسط الدائرة سنجد صورة جرائد ومجلات ، قد ترمز إلى التاريخ من ناحية ، وقد تحيل على الجانب الثقافي من ناحية ثانية ..فإذا كان التاريخ قد ظلمه وظلم شعبه ، وهو من وضعه في هذه الدائرة المفرغة إلا من آلامه وآهاته ..وهذا المعنى يؤكده اللون الأحمر في أسفل الشكل إذ يدل على الغضب والاشتعال غيظا وحرقة ..كما قد يحيل على الثورة التي تموج بداخله وتضطرم في أحشائه ..لكن حضور اللون الأزرق يخفف من درجة رؤية هذه الجرائد والمجلات ..لعلها إشارة إلى الثقافة.. إلى صورة الإنسان الذي يتجاوز مرحلة الطبيعة إلى مرحلة الفكر والذكاء كمكونات لما نسميه بالتشريط الثقافي أو هكذا سماه فلاسفة الطبيعة ، الذي يمكنه من تجاوز قصوره وتعويضه نصرا وانتصارا بما أوتي من فكر وفن ..وقد توحي لوحاته وفنه بذلك، إنه المتنفس للخروج من الأزمة وإن حوصر هذا الجسد فإن فنه لن يعيقه الحصار عن الخروج إلى النور، واختراق الجدران المبعثرة والمتصدعة..وهو ما نجده وراء صورة الصحف والدائرة..فقد ركز الفنان على شكل متوازية أضلاعه ، ولكنه شبعه بدرجات من القيم الضوئية ، ليرسم فيه النتوءات الخشنة والفجوات التي توفرها المادة .. وكأننا بالطلاء الزيتي يصبح بمثابة تعميق للبعد الثالث من خلال إضافةالظلال إلى النتوءات فيه أو هو خلق مجال من الشفافية ..ويقابله من الجهة اليمنى رسم لمستطيل غابت بعض أضلاعه وراء الشكل اللولبي قد يعبر عن لحظة ضوء شاردة في الأفق ينفتح منها باب أمل .. وهذا يتأكد على يمين الكتلة،بهذه الحركة الضوئية الخاطفة كالشهاب إذا ما اعتبرنا الأبيض قيمة ضوئية وليس مجردلون..وقد حضر بشكل عشوائي ليعانق الأصفر والأحمر فيأخذ شكل شرارة نار ملتهبة ..لعلها النار التي تضطرم في أعماقه وتصهد ذاته .. هنا يلتبس اللون الأحمر بالأصفر ،و منه ما يختلط ويتماهى وينصهر ليكون اللون البرتقالي الحار الذي يدل على معني الإبداع المترسب في ذات الفنان ..ومنه ما بقي دون امتزاج ليحافظ الأحمر على خصوصياته ويحتفظ الأصفر بطاقته وحيويته ومسحة التفاؤل التي لا تغيب عن أعمال الفنان ..ولكن هذه الألوان الحارة بدت محاذية بصفة مباشرة للأزرق الداكن المغرق في البرودة الضوئية.. ولعل ذلك ما يساعد على طبع عملية الإنشاء بطابع التوترفيزيد من الانفعال البادي على اللوحة ..وما يزيد الأمور حدة هذا الحضور للون الأسود الذي يأخذ في الغالب شكل عصا منها العمودي ومنها المنحني ، وقد تركزت على جنبات الشكل اللولبي وداخل الدائرة المكونة له ..لعلها صورة الفنان و.، وهذا يؤكد معنى الصراع الذي ذهبنا إليه ..أو لعلها عصا القهر والاضطهاد المسلط على أعناق أبناء هذا الوطن ..لكن بصيص الأمل لم يخل من هذه اللوحة وهذا الخط المنحني الذي ينطلق من الأسفل إلى الأعلى ..وهو مشهد تتصارع فيه الألوان بين الحارة والباردة ..الأصفر والأحمر مقابل الأخضر مع بقعة لونية بين الحمرة والسواد ..تتصل بالخط المنحني وتلامسه ..لعلها صخرة “سيزيف” يحاول أن يدحرجها إلى القمة ترمز إلى صورة الفنان الذي يحاول أن يؤصل كيانه ..يتقاوى …يتقادر …رغم الهزائم..يحاول أن ينهض من جديد ..أن يكسر الحصار ويهزم الضعف في ذاته ..وهذا عبر فنه الذي تجاوز به الحدود رغم أنه قد آلمته الحدود ..ويرزح تحت وطأة القيود..وهذا ما يكشفه اللون الأخضر في زاوية اللوحة جنب الخط المائل إنه بعض الهدوءالذي تشعر به نفسه..أو ربما هي جنته الموعودة وفردوسه المفقود الذي يحلم بمعانقته يوما …لقد حضر اللون على حساب التركيب والبناء .. إنه مشهد غير عادي نظمه الرسام الدكتور خالد نصار بعد أن تخير العناصر الممثلة للذات المتقوقعة ووزعها على فضاء اللوحة معتمدا أشكالا متنوعة .. وهذا ما يجعلها مستمدة من مرجعية هندسية ، فهي تحتوي على العديد من الأشكال ولكنها تنزاح عن تمظهراتها التشكيلية .. وهذا ما يؤكد ثراء هذا العالم المتخيل الجمالي ومدى قدرته على إنشاء هذه الصورة إنشاء سرياليا .. بهذا يذوب الشكل في حلاوة الغموض ، وتستحيل عناصره الفضائية إلى لمسات مرتجلة وعفوية تحتمل نبض حياة متجددة ، وهي حياة مسار إبداع العمل الفني نفسه ، وحوار الفنان مع مرونة الدهن ونضارة اللون ..
لقد مثلت اللوحة فضاء متزمنا يخضع إلى سيرورة بنائية جعلها حاضنة لجملة من اللحظات الشعورية ، تفصح عن قصة خلقها ” كرونولوجيا ” ..ولكن في الآن نفسه قد تجعلنا إزاء” سانكرونية ” التمثل فهي بمثابة حركة بصرية مشخصة ومتعينة في الفضاء وكأننا بها في تشكلها العام بمثابة الصراع المستمر الذي يخوضه مع العدم ..
اللوحة: