بقلم /السفير سعد الأمام الحجاجي
في أكتوبر الماضي وصلت المفاوضات الثلاثية بين إثيوبيا والسودان ومصر إلى طريقٍ مسدود، بعد استمرار الجانب الإثيوبي في رفض كافة الاقتراحات التي تقدمها مصر والسودان للوصول إلى اتفاق يحافظ على حقوق كل الأطراف. وكانت مصر قد طالبت بتفعيل المادة العاشرة من اتفاق إعلان المبادئ الذي وُقِّع في سنة ٢٠١٥ بين الدول الثلاث في الخرطوم، وينص هذا البند على مشاركة طرف دولي للتوسط بينها لتقريب وجهات النظر، والوصول إلى اتفاق يحافظ على حقوق كل الأطراف.
وعملاً بهذا البند، كانت مصر قد طلبت من أمريكا التدخل، وفعلاً كانت هناك جولة كاملة على مدار أكثر من ثلاثة أشهر من المفاوضات تحت إشراف أمريكا والبنك الدولي، ووصلت الأطراف -أو هكذا ظن الجميع- إلى اتفاق، وتم تحديد ميعاد التوقيع عندما فاجأ الوفد الإثيوبي جميع الأطراف بالعودة لإثيوبيا، والاعتذار عن حضور اجتماع التوقيع. وانهارت هذه المفاوضات أيضًا، وهدد ترامب إثيوبيا بعقوبات اقتصادية من جراء هذا التصرف. وتلى هذا الإخفاق محاولات أخرى، ولكن تصل كل المحاولات عند نقطة إلزام إثيوبيا بالتوقيع على اتفاق قانوني ملزم بالمشاركة في إدارة ملء وتشغيل السد لتتهرب اثيوبيا من ذلك بشتى الطرق.
هذا الاتفاق ليس اتفاق رفاهية تحاول كل من السودان ومصر فرضه على إثيوبيا، بل هو اتفاق دولي معترف به حول العالم، لأنه ضروري جداً لسلامة كل البلاد المشاركة في مياه نهر واحد. وفكرة المشاركة من كل البلاد التي يجري عبرها أي نهر هي لأن الأنهار لها أوقات فيضان، وأوقات جفاف، وعندما يكون هناك فيضان، فلابد وأن تكون كل الدول المشاطئة على علم ودراية بكل التطورات التي قد تشكل تهديداً لها. وكما رأينا في الصيف الماضي، عندما جاء الفيضان أعلى من المتوقع، ولم تحذر إثيوبيا السودان ومصر بذلك، وفتحت كل بوابات سد النهضة، مما أثر على كمية المياه الواصلة للسودان، والتي لم تكن السودان مستعدة لها ، فكانت النتيجة إنهيار أول سد وصلت إليه هذه المياه، مما أسفر عن غرق عدة قرى، وهدم ٦٠٠ منزل. ولذا فاتفاقيات التعاون في إدارة السدود هى اتفاقيات دولية ملزمة، وذلك لأن أمن البلاد يتوقف عليها. أما بالنسبة للوضع الحالى بالنسبة للنيل الأزرق، فهذا يعني أنه لابد من اتفاقية قانونية ملزمة، ويحدد فيها جهة التقاضي، لو هناك عدم التزام من أي جهة، وأيضاً يحدد فيها نوع التعامل بالتفصيل فيما يخص كم المياه التي لابد وأن تمر عبر السد لدول المصب، خصوصاً في أوقات الجفاف، والجفاف الممتد. ودأبت إثيوبيا على رفض التوقيع على هذه الاتفاقية بحجة انه تدخل في شئونها الداخلية، لأنها تعتبر أن إدارة السد شأن داخلي محض. وقد يكون هذا الجهل بالأعراف الدولية هو أساس الموضوع، لكن بعد تفاوض لما يقرب من عشر سنوات، فلابد وأن إثيوبيا تكون قد أدركت أن ما تطالب به دول المصب لهو الشيء المتبع دولياً ويصب في مصلحة الجميع.
وللأسف، فإثيوبيا لها تاريخ طويل في عرقلة أي تعاون مع دول المصب بالنسبة لسد النهضة فيما يخص إجراء دراسات خاصة بتأثيره على البيئة والاقتصاد والمجتمع في دول المصب.
وفي أكتوبر الماضي، قامت إثيوبيا باقتراح لأساس التفاوض يمحو أغلب ما قد اتفق عليه مسبقاً، وفي حينها أعلن الرئيس السيسي أن هذه الجولة لم ينتج عنها أي تطور ايجابي وذلك بعد فشل آخر دورة من المفاوضات. ولكنه “قال في تغريدة على تويتر “أؤكد أن الدولة المصرية بكل مؤسساتها ملتزمة بحماية الحقوق المائية المصرية فى مياه النيل، ومستمرة فى اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسي وفى إطار محددات القانون الدولى لحماية هذه الحقوق.” وكانت اثيوبيا في الاجتماع الاخير قد رفضت مناقشة قواعد تشغيل السد، وأصرت على التفاوض بالنسبة لملء السد فقط.
(١)
في هذه الأثناء اشتعلت مرة أخرى الحروب الأهلية المتتالية داخل اثيوبيا المكونة من عدة عرقيات، وتعتبر جمهورية اتحادية تضم أقاليم شبه مستقلة في اتحاد فيدرالي، ولكن لتباين العرقيات، وشعور عدة عرقيات بأحقيتها في الحكم، نجد صراع مستمر في إثيوبيا على أقل اختلاف. والحرب الأهلية الأخيرة كانت ضد إقليم تيجراي والذي كان له تاريخ طويل في حكم إثيوبيا قبل عهد آبي أحمد. ووصلت إلى حرب فعلية، حيث هاجمت القوات الفيدرالية إقليم تيجراي ، ونتج عن هذه المواجهة المسلحة تشريد ما يقرب من ١٠ مليون من أهالي الإقليم.
(٢)
ولم تلبث القوات الفيدرالية أن تسيطر على الوضع الداخلى في تيجراي حتى بدأت المناوشات الموسمية مع السودان. لكن هذه المرة يبدو أن إثيوبيا أرادت الاستيلاء على واحدة من أخصب الأراضي السودانية، وذلك بالاستيطان من جانب المواطنين الإثيوبيين الذين يتسللون إليها للزراعة، لأن إثيوبيا تفتقر لأراضي صالحة للزراعة. وكان هناك اتفاق بين البلدين أن تؤجر السودان لحوالي ٥٠ مزارع أثيوبي جزء من الفشقة الصغرى لزراعتها موسمياً. ولكن هذه المرة دخلت أعداد كبيرة من الإثيوبيين ليس فقط للفشقة الصغرى، ولكن إمتدوا للفشقة الكبرى، ولم يريدوا العودة لإثيوبيا بعد إنتهاء العقد الموسمي، فتحرك الجيش السوداني لطردهم من أراضيه، فهاجمته الطائرات الإثيوبية ودارت معركة قصيرة لكن شرسة تمكنت فيها القوات السودانية من استعادة أراضيها وطرد الإثيوبيين الذين أرادوا الاستيطان هناك.
(٣)
وكان من الطبيعي جداً أن تقف مصر مع الشقيقة السودان، والتي كانت تدافع عن أراضيها المُعتدَى عليها. ولكن إثيوبيا اعتبرت هذا تهديداً لها، ولو أن موقف مصر يتسق مع مبادئها المعلنة، وهي الوقوف مع الحلفاء ضد من يعتدي عليهم، وهو ما كان يحدث بالنسبة للسودان من إثيوبيا.
وتم تأمين الحدود السودانية واستردت السودان كامل أراضيها، بعد محاولة إثيوبيا اغتصاب جزء من أخصب أراضي السودان.
وبطبيعة الحال كان لهذا الموقف الأثر في تقارب أكبر بين مصر والسودان، والذي بالطبع أزعج إثيوبيا واعتبرته أنه موجه ضدها، بالرغم من استمرار مصر في التأكيد على أنها تتعامل مع ملف سد النهضة من منطلق الديبلوماسية، وليس القوة العسكرية. ولكن بعد زياة وزيرة خارجية السودان لمصر في نفس توقيت زيارة رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية للسودان وتوقيع اتفاقية تعاون عسكري مع الخرطوم. وخلال الزيارات المتبادلة كانت هناك تصريحات عن الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، وطبعاً سد النهضة كان من الاولويات في هذا المجال، “وطالبت القاهرة والخرطوم أديس أبابا “بإبداء حسن النية والانخراط في عملية تفاوضية فعالة من أجل التوصل لاتفاق”. ومع توقيع الاتفاقية العسكرية مع السودان صرح “رئيس أركان الجيش السوداني، الفريق أول محمد عثمان الحسين، أن الاتفاق العسكري الجديد يرمي إلى “تحقيق الأمن القومي للبلدين لبناء قوات مسلحة مليئة بالتجارب والعلم”. وقدم الحسين الشكر لمصر على ما وصفه “الوقوف بجانب السودان في المواقف الصعبة”.
وفي هذا السياق صرح وزير الري السوداني من خطورة “إقدام إثيوبيا على الملء الثاني لسد النهضة بصورة أحادية في يوليو/تموز المقبل”، باعتباره تهديداً مباشراً لأمن السودان.
وأوضح عباس أن خطوة الملء الثاني للسد “سيؤثر بشكل مباشر على سد الروصيروص، وعلى كل الحياة بولاية النيل الأزرق”.
وقد اقترح السودان أيضاً توسيع المشاركة في التفاوضات بضم كل من: الاتحاد الافريقي، وأمريكا، والاتحاد الاوروبي، والأمم المتحدة لها كوسطاء، وليس كمراقبين، كما كان الوضع السابق الذي لم يسفر عن أي تقدم. وتتفق القاهرة مع السودان لأنها ترى موقف إثيوبيا الحالي يشكل ” تهديداً للأمن القومي المصري”.
“وفي هذا السياق، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم 2 من مارس/آذار، على ما وصفه بـ “موقف مصر الثابت من حتمية التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم فيما يخص ملء وتشغيل السد، بما يراعي عدم الإضرار بدولتي المصب ويحافظ على حقوقهما المائية”.
(٤)
وبالرغم من أن كل من السودان ومصر مازالتا تطالبان إثيوبيا “بإبداء حسن النية والانخراط في عملية تفاوضية فعّالة من أجل التوصل إلى اتفاق” بشأن ملء وتشغيل السد، إلا أن هناك الكثير من التكهنات في الصحف من كُتَّاب الرأي تقول أن مصر بدأت ” التعبئة الشعبية والعسكرية”، بعد طول مماطلة إثيوبيا في التفاوض. ولكن هناك من يرجح أوراق ضغط أخرى لدى مصر قبل الدخول في مواجهة عسكرية مع إثيوبيا. ورجحت جريدة لندنية أن الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس السيسي إلى الخرطوم مؤخراً لعدة ساعات فقط، على أنها “زيارة حرب”، وأنها رسالة قوية موجهة لإثيوبيا. وتقول الصحيفة أن الاحتفال الوطني بيوم الشهيد في ٩ مارس كان بمثابة رسالة إلى أن مصر قد حسمت أمرها باللجوء إلى الخيار العسكري، وأن الاحتفالات بداية التعبئة الشعبية العسكرية.
وفي نفس الوقت تؤكد الجريدة البريطانية أن “مصر والسودان لا تريدان الحرب… ولكن عندما تتعرض حياة هؤلاء الملايين من المزارعين الأبرياء الذين سيموتون جوعا نتيجة هذه الخطوة الإثيوبية فمن يلوم حكومتي البلدين إذا أقدمتا عليها، فهذا السد بات يشكل تهديدًا وجوديا لهما ولشعبيهما معًا… مصر تعيش أجواء حرب، وقيادتها إذا قالت فعلت”.
ولكن هناك آراء أخرى تقول أن كل من مصر والسودان تعملان من داخل إطار القانون الدولي، وتحاولان توسيع نطاق المفاوضات أملاً في التوصل في المفاوضات – مع بعض أوراق الضغط على إثيوبيا- إلى حل لهذه الأزمة. ومن ضمن أوراق الضغط التي لم تستخدمها مصر والسودان بعد، هى أن السدود التي تثور حولها خلافات لا يجوز تمويلها من الدول أو المؤسسات المالية الدولية، فيمكن لدولتي المصب أن تقوما بإيقاف التمويل الدولي لسد النهضة على هذا الأساس.
(٥)
ولكن مازالت هناك تكهنات كثيرة بالنسبة لهذا الوضع، ومنها من يظنون أن هناك حركات على الأرض تساند الراي القائل بأن مصر والسودان تتأهبان لخوض معركة مسلحة مع إثيوبيا لو لم تلتزم باتفاق قانوني ملزم بالنسبة لملء وتشغيل السد، وذلك بالإشارة إلى أن سد الروصيرص فتح أبوابه بالكامل لتصريف المياه في البحيرة التي خلفه، والتي تقدر ب٥ مليار متر مكعب، وهي نفس كمية المياه المخزونة وراء سد النهضة بعد الملء الأول.
وفي رأي الكاتب أن هذا يعنى إمكانية ضرب السد وتدميره بحيث تفيض مياهه إلى السودان التي يمكنها احتجازها وراء سد الروصيرص.
(٦)
و أيٍّ من مصر أو السودان وأي تلميح بأن هناك أي نية لسلوك هذا الطريق في التعامل مع مشكلة سد النهضة.
وفي خبر عاجل السودان يطالب رسمياً بوساطة رباعية لحل أزمة سد النهضة، وبذلك نجد أن مازالت كل من مصر والسودان تنتهجان المسلك التفاوضي.
(٧)
ولابد من إعطاء المساحة إلى أنه قد يكون هناك أيضاً تحضير للأرض تحسباً للإخفاق في هذه المفاوضات كما حدث على مدار ما يقارب العشر سنوات، ولا مانع من الاستعداد لكل الاحتمالات، وهذا ما يجب ان تقوم به أي قيادة مسؤولة.
ولكن في خبر بتاريخ ١٧-٣ أكدت السودان أنه لا يوجد تفريغ لخزان سد الروصيرص، وأن الصور التي التقطت لذلك كانت صور قديمة
(٨)
والجدير بالذكر أن مصر مازالت تتبع نفس الأسلوب الذي انتهجته حيال هذه المشكلة، وهو اللجوء للحلول التفاوضية، وإشراك الدول والمؤسسات الدولية في إيجاد هذا الحل، وذلك من خلال الكلمة التي وجهها رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي إلى الأمم المتحدة والتي يعبر فيها عن قلق الحكومة والشعب المصريين من مشكلة سد النهضة.
حفظكم الله وحفظ الله كلٌّ من مصر والسودان من شرور الأشرار،،،،،