بـقـلـم / حـســن زايــــــــد
أسئلة حادة مدببة ، لها مطارق ، تنقر جمجمتي الصحراوية ، دقات منتظمة ، سريعة ، متدافعة ، لا تدع فرصة للتفكير المنتظم المستقيم ، الذي يقر له في النهاية قرار . شممت بين ثنايا حروف كلماتها ، التي كانت ترد بها علي كلماتي عبر نافذة الدردشة رائحة ما . لم أستطع تمييزها ، غير أنها كانت تميل إلي الإختزال ، والإقتصار ، والرمادية . أشبه ما تكون باللغة الطاردة ، الجافة ، غير المكترثة . كنت حريصاً علي الإدراك ، والفهم ، والإستيعاب ، دون معرفة سبب لذلك . وكانت لغتي تميل إلي اللين ، والتبسط ، والتلطف ، حتي لا أستفز فيها نوازع التمرد ، والتفلت ، واستمراء القطيعة . ومع ذلك ، استغلت كلمة فلتت مني مزاحاً ، حتي قاطعتني شهراً . ليلتها سكتت الحروف ، وانخرست الكلمات ، في مقابل حروفي التي شكلت كلمات مترجية دون جدوي . ليلتها أخرجت هاتفي وطلبت رقمها مراراً ، حتي قامت بغلق هاتفها . وظل الموقف مجمداً شهراً ، خلاله تدفقت بداخلي دون إرادة مني مشاعر الشوق واللهفة . لم أكن أتصور أن ذلك الحب الفيسبوكي له هذا الألم ، حب بلا ملامح ملموسة ، مما يترك في النفس أثراً أو انطباعاً أو ملمحاً يجري التعلق به ، حيث أن موضوعه شخصية افتراضية متوهمة ، لا وجود لها إلا في الحروف والكلمات . ومع ذلك شعرت في القلب وجعاً . كنت أجري علي اللابتوب بلهفة ، أفتحه ، وأجلس متسمراً أمامه ، أستنطقه فلا ينطق ، أحدثه فلا يرد ، صوتاً أو صدي ، وكأن حروفه وكلماته قد أصابها الخرس ، وفقدت الحس والحركة والشعور ، وفقدت حياتها انتحاراً علي عتبة انقطاعها عني ، ويظل حالي هكذا حتي يغلبني النوم ، أو يحطني التعب . بدأت المخاوف تناوش ثوابت قلبي وعقلي . وينهش الشك في لحم الحب بنهم نهشاَ موجعاً . وفي ليلة عصيبة ، التقطت عيني لمبة وجودها علي الجانب الآخر تشع لونها الأخضر ، فسارعت إلي نافذة الدردشة :
ــ آمل فقط أن أعرف السبب .
ــ من فضلك .
ــ أهذا قرارك النهائي ؟! .
طال الإنتظار أمام النافذة الحوارية ، ولم يرد جواب حتي صبيحة اليوم التالي . مرت الأيام التالية بطيئة متثاقلة لزجة . آلام الوخزات التي تنخر في وهاد قلبي تحرمني النوم . تعملقت الأيام ، وأمست شهوراً كالجبال الرواسي ، تجثم فوق صدري ، تحول ما بيني وبين الحياة . البشر ، الشجر ، الطيور ، المواشي ، السحاب ، والهواء ، والنجوم في السماء . ولعل في الغموض ، والضبابية السوداء ، التي تلف الموقف في الجانب الآخر ، ما يدفعني إلي القلق ، والتوتر ، والعصبية . لقد كنت أتصور دائماً أن الموقف تحت السيطرة ، لأني ما جعلت قلبي أسيراً لأحد أو لموقف ، وظننت أني أُسَيِّر الأمور وفق إرادتي . فإذا بالإنفلات ، والتمرد ، والضبابية ، والرمادية في مفردات الموقف ، فإذا بي مقود بقلبي ولست قائداً ، كما توهمت . تفاجأت في تجاربي اليومية مع النافذة الحوارية ، التي تبوء بالفشل في استقبال رسائلي في كل مرة ، أنها استقبلت هذه المرة :
ــ لماذا ؟
ــ لأنك أردته فيسبوكياً ، من باب التسلية .
ــ لا .
ــ طلبت منك إثبات ذلك واقعاً .
ــ لقد تزوجت .
ــ أتمني لك السعادة .
ــ أرأيت ؟
ــ لو أردتني حقاً ، لطلبت منه الخلع صباحاً .
لقد ضربت بمطرقة فوق رأسي علي نحو خاطف ، وتبعثرت كل الأوراق ، وسقطت كل الحسابات ، وشعرت بأني مقدم علي فترة عصيبة من حياتي . لقد مررت بذات المشهد من قبل ، من سنوات بعيدة ، حين تزوجت محبوبتي . ولم أكن قد وضعت تصور لحياتي من دونها . يومها ضاعت مني ملامح الطريق ومحدداته ، وعشت آلاماً مبرحة ، وأحزاناً عميقة أحدثت حفراً داخل نفسي ، صاحبتني آثارها وندوبها حتي الآن ، ولا تزال صورتها تمر بخاطري مكللة بهالات الأحزان السوداء ، المقبضة للنفس . ولا ريب أن ذلك جعل حياتي أكثر صعوبة . وجعلني أكثر حذرا ، وتحوطاً من الوقوع في حبائل العشق بقلب مجروح نازف ، مهما تقادم الجرح واندمل . والصعوبة في أن ينجرح الإنسان في نفس الموضع مرتين ، والأكثر صعوبة أن يكون ذلك الموضع هو القلب . وهذه المرة كسابقتها ، استسهلت الأمر ، واسترسلت فيه ، حتي حفر في سويداء القلب بالحديد والنار . في الأولي كان لدي من الوقت ما يكفي للملمة الأوراق والأوضاع وشعث النفس ، والتعايش مع الجرح . أما هذه فليس هنالك وقت لذلك . في الأولي كانت الخيارات صعبة ، أما هذه فليس هنالك خيار . ومر وقت لم أعد أحسبه ، حتي فوجئت بها تفتح النافذة الحوارية ، متسائلة:
ــ أنت زعلان .
ــ طبعاً .
ــ أنا تخيلت أن زواجي سينسيني حبك .
ــ إكتشفت أني كنت مخطئة
ــ ما زلت تجري في عروقي .
ــ هل ستنساني ؟ .
ــ لم أعد أملك ترف النسيان .
ــ بحبك .
ــ وأنا أيضاً .
ويبدو أنني كنت في حاجة إلي بقاء هذا الحب الفيسبوكي حياً . وما زلنا نتواصل عبر نافذة الحوار . ولم يبق في جعبتي سوي الحب .