من مصابيح الهدى الحسن البصري
إعداد/ مجدي بكر أبو عيطا:
درجَ الحسنُ بن يسار الذي عُرف فيما بعد بالحسن البصري في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورُبِّيَ في حجر زوجةٍ من زوجات النبي، هي هند بنت سٌهيل ، المعروفة بأم سلمة، وأمُّ سلمة إنْ كنتَ لا تعلم, كانت من أكمل نساء العرب عقلا، وأوفرهن فضلا، وأشدهن حزما، وكانت من أوسع زوجات رسول الله صلى الله عليه سلم علما, وأكثرهن رواية عنه، إذْ روت عن النبيِّ صلى الله عليه و سلم ثلاثمائة وسبعة و ثمانين حديثا ، ولا يوجد أروع من العلم مع الخُلق، فالذي يرفعك إلى أعلى عليِّين أن تكون أخلاقيا بقدر ما أنت عالم، وأنت عالم بقدر ما أنت أخلاقي، هذان الخطَّان إذا ارتقيتَ فيهما, فأنت في أعلى عليِّين، وكانت إلى ذلك كلِّه من النساء القليلات النادرات اللواتي يكتبن في الجاهلية, وإنما امتدَّت إلى أبعدَ من ذلك، فكثيرا ما كانت خيرة أمُّ الحسن تخرج من البيت لقضاء بعض حاجات أم المؤمنين، فكان الطفلُ الرضيع يبكي من جوعه، ويشتدُّ بكاؤه، فتأخذه أمُّ سلمة إلى حجرها، وتلقمه ثديها لتصبِّره، وتعلِّله عن غياب أمه .
إذًا: هذا التابعيُّ الجليل رضع من زوجة رسول الله، فكأن النبيَّ أبوه من الرضاعة، وكانت لشدَّة حبِّها إياه, يدرُّ ثديُها لبنا سائغا في فمه, فيرضعه الصبيُّ، ويسكت عليه، وبذلك غدت أمُّ سلمة أمًّا للحسن من جهتين؛ فهي أمُّه بوصفه أحد المؤمنين، لأنها أمُّ المؤمنين، وهي أمُّه من الرضاعة أيضا، ولقد أتاحت الصِّلاتُ الواشجة بين أمهات المؤمنين, وقرب بيوت بعضهن ببعض بالغلام السعيد, أن يتردَّد على هذه البيوت كلها .
بالمناسبة وهذا من فضل الله علينا، لقد شاء حكمةُ اللهِ عزوجل أن تولد في بلد إسلامي، فيه مساجد، وفيه مجالس علم، وفيه أهل، وفيه بقيّةُ حياء، وبقية أخلاق، وبقية انضباط، نقول: بقية، ولو أن الإنسان وُلد في شيكاغو الأمريكية مثلا، أو في نيس الفرنسية، ففي هذه المدن الفاسقة الفاجرة, عصابات للخمور والزنا واللواط، واللهِ هذه نعمة كبرى، أن الله عز وجل سمح لك أن تكون في بلد سلامي، وسمح لك أن يسمعك الحقَّ، هذه بشارة أيها الأخوة، قال تعالى:﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
أحيانا لا يعرف الإنسانُ قيمة هذه المجالس إلا إذا سافر، فيشعر بوحشة وضيق، فلا يعرف قيمة هذه المجالس إلا مَن ابتعد عن بلاد المسلمين، ومَن أقام في بلاد المشركين من دون ضرورة, فقد برئت منه ذمَّة الله .
تردَّد الحسنُ البصري على بيوت رسول الله، وتخلَّق بأخلاق ربَّاتها جميعا، واهتدى بهديهم، وقد كان كما يحدِّث عن نفسه يملأ هذه البيوت بحركته الدائبة، ويُترعها بلعبه النشيط، حتى إنه كان ينال سقوف بيوت أمهات المؤمنين بيديه، وهو يقفز فيها قفزا .
ظلَّ الحسن يتقلَّب في هذه الأجواء العبِقة بطيوب النبوة، المتألَّقة بسناها، نحن ما أتيح لنا أن نلتقيَ بنبيٍّ، لكن أنا أتصوَّر أن الإنسان لو التقى بنبيٍّ, فهذا شيء كبير وعظيم، وكان أحدُ الصحابة اسمه: ربيعة يخدم النبيَّ، فلما يأتي وقتُ نوم النبيِّ, يقول له: انصرف، أين ينام هذا الصحابي؟ على طرف باب بيت النبي، من شدة تعلُّقه به، فكمالُ الإنسان إذا كان في أَوَّجِّه لا يُصدَّق .
فعن سعد بن أبي وقاص, قال:
((مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين, قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟ قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته, قالت: كل مصيبة بعدك جلل))
أي لا قيمة لها، هكذا أحبَّ الصحابةُ رسولَ الله .
أخواننا الكرام, الإسلام كلُّه حبٌّ، فإذا كان القلبُ لا يخفق بالحبِّ, فهو مثل وردة بلاستيك كبيرة وحمراء، ولكنَّ النفس لا تهفو إليها، أما الوردة الطبيعية, فشيء جميل جدًّا، فلا إيمان لمن لا محبَّة له، وإذا لمْ تحب الله عز وجل, فلن تدمع هذه العينُ أبدا, تقرأ القرآن وكأنه كتاب عادي، وتصلِّي وكأنك في حركات رياضية، أين الحبُّ؟ وأين المناجاة؟ وأين أنت من قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
[سورة الأنفال الآية: 2]
أين هذه؟ قال تعالى:
﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
هذا التابعي الجليل تتلمذ على أيدي كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن عثمانَ بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، لكنه أُولِع أكثر ما أولع بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
راعه من هذا الصحابي الجليل صلابتُه في دينه – سيدنا علي – وإحسانه لعبادته، وزهادته في زينة الدنيا، وغلبه بيانُه المشرِق، وحكمته البالغة، وأقواله الجامعة، وعظاته التي تهزُّ القلوبَ، وتخلَّق في أخلاقه بالتقى والعبادة، ونسج على منواله في البيان والفصاحة، ولما بلغ الحسنُ أربعة عشر ربيعا من عمره، ودخل في مداخل الرجال، انتقل مع أبويه إلى البصرة ، واستقرَّ فيها مع أسرته، ومِن هنا نُسِب الحسنُ إلى البصرة، وعُرِف بين الناس بالحسن البصري، والبصرة كانت يومئذ قلعةً من أكبر قلاع العلم في عالَم المسلمين
دَّث خالد بن صفوان, فقال: (لقيتُ مَسلمةَ بنَ عبد الملك في الحيرة, فقال لي: أخبرني يا خالدُ عن حسن البصرة، فإني أظنُّ أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك, فقال: أصلح اللهُ الأمير, أنا خيرُ مَن يخبِرُك عنه بعلم، قال: أنا جارُه في بيته، وجليسه في مجلسه، وأعلم أهل البصرة به، قال: هاتِ ما عندك, -هل هناك ثروة أعظم من أن يكون لك أخبار طيِّبة بين الناس، وسمعة عطرة؟ هل هناك ما هو أعظم من أن يثنيَ عليك الناسُ في غيبتك؟ أمّا في حضرتك المديح لا قيمة له، لأن هناك من يخافك، وهناك من يطمع في عطائك، فيكيل لك المديح جُزافا، لكن البطولة أَنْ يمدحك الناسُ في غيبتك، هذا هو المدح الحقيقي، وأنت غائب-.
قال: هاتِ ما عندك, قلتُ: إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته, وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أَعْمَلَ الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أَتْرَكَ الناس له، ولقد رأيتُه مستغنيا عن الناس، زاهدا بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه، طالبين ما عنده, فقال مسلمةُ: حسبُك يا خالد, كيف يضلُّ قومٌ فيهم مثلُ هذا؟) .
سأله واحد: بِمَ نِلتَ هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، فكيف إذا كان العكسُ؟ الناسُ مستغنون عن علمه، وهو محتاج إليهم، واللهِ هذا شأنُ بعضِ مَن لم يُوفَّق في دعوته إلى الله عزوجل، الناسُ مستغنون عن علمه، وهو في أشدِّ الحاجة إلى أموالهم، وإلى قوتهم .