بقلم/ محمد مأمون ليله
بدأت العلمانية في أوربا مع اندلاع الثورة الفرنسية، عندما خرج الناس ضد النظام الإقطاعي الذي كان متحالفا مع الكنيسة ومتخفيا وراءها، فهي تمثل حركة ثورية، قامت – في الأصل- على الحكام المتحالفين مع الكنيسة على الشعب، ثم على رجال الدين تبعا، وهي كفكرة تطالب بتصحيح الدين، وضبط رجاله، والتحرر العقلي من الجمود، ثم لما تمكنت لغت الدين نفسه من الحياة بعد أن كانت تحيده شيئا فشيئا، وحصرته في الكنائس فقط؛ بسبب مشكلتها القوية مع رجال الدين الذين استخدموه لخدمة الحكام، ولأهوائهم الشخصية.
فنشأتها تمثل ردة فعل لاستبداد رجال الكنيسة، وتحريفهم لفكرهم ومنهجهم وتشويهه، مع إفسادهم المجال السياسي، وليّ النصوص الدينية للسيطرة على رقاب الشعوب، وحكم الشعب باسم الله، وإصدار أحكام ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل عليها، وأيدوا الفكرة التي تنادي بعصمة الحاكم، و أن لا قول مع قوله، خاصة الحاكم المرضي عنه من الكنيسة، ثم إنهم فرضوا على الناس العشور، وجعلوا الكل تحت رقابهم، مع الاستهزاء بعقول الناس بصكوك الغفران، فمنعوا عنهم الدنيا والآخرة، مع تبني الكنيسة آنذاك مَجموعةَ من النظريّات العلميّة القديمة، والتي ربطتها بالدين، ثم تبين تهافت كثير منها، إضافةً إلى ظهور العديد من التأثيرات السلبيّة الناتجة عن الحروب بين الطوائف المسيحيّة الأوروبيّة، والتصادم الحقيقي الشديد بين الدين والعلم، بالإضافة إلى الفساد العريض لرجال الدين، فكثير منهم يقولون ما لا يفعلون، وهذه تفسر لنا حقيقة نظرة العلمانيين إلى رجال الدين من كل الشرائع، ومن هنا فثورتهم على الحكام أخذت الكنيسة تبعا؛ لأنها ثورة على الاستبداد الديني في حقيقتها، وليست على الدين أصالة، ثم نتجت عنها الليبرالية فيما بعد، والتي تعادي الدين نفسه.
وقد قامت على كره علماء الدين، مع كره التفسير الديني لهم له، ومن هنا قالوا: اعتقد في بيتك، وسنضع لأنفسنا تفسيرا للحياة يتماشى مع عقولنا وفكرنا، ومن هنا فصلوا الدين عن الحياة، فهي في الحقيقة ثورة صادقة على إدارة وأفكار كاذبة.
والأصل أنها حركة ثورية ليست علمية، بينما أتت الليبرالية بعدها في مرحلة الترف الفكري، وكانت أخطر منها.
والعلمانية أيا كان أصلها واشتقاقها هل هي من العلم أم من العالمية؟ لكنها دعت إلى العلم ضد التخلف الكنسي آنذاك، ثم صيروها عالمية بعد ذلك، وعليه يصح أن تكون من العالم، ومن العلم كذلك.
ولعلها عندما قامت بعمل النظام الديمقراطي والانتخابات كوسيلة للوصول إلى مبتغاها كان غرضها طيبا؛ لإبعاد رجال الدين مطلقا، وحصر التشريع على أنفسهم فقط كبديل عن الكنيسة، وقيدوها حتى لا تتدخل في السياسة، ولم يهدموا الكنائس؛ لأنها ثورة على الحكام الظلمة الذين كانت تباركهم الكنيسة، وعلى التفسيرات الخاطئة والمزاجية للنصوص، وليست ثورة على الدين نفسه كنص، وإلا كانت دعوة إلحادية، وإن كان بعض طريقها قد يوصل بعض الناس إلى ذلك.
والعلمانية كحركة تجديدية- آنذاك- ثورية؛ فقد خرجت منها العديد من الحركات الفكريّة الأخرى، مثل: الشيوعيّة، والنازيّة، والفاشيّة.. وهذه الثورية هي التي نفهمها في تعاملهم السياسي في الدول التي يوجدون بها، حيث يعدون أنفسهم أصحاب الاتجاه التنويري والتجديدي، والذين ينعقد عليهم الأمل.
ولما كان الأمر كذلك فقد انطلق كثير من العلمانيين واتخذوا من المصلحة أساسا يتعاملون به مع غيرهم، وغاب عن كثير منهم أخلاق الفرسان، والإنصاف مع المخالف؛ بسبب ما تحملوه من فكر المنشأ، كما أنهم ينتهزون كل فرصة ولو بقلب الحقائق لهدم الخصم، دون مراعاة في كثير من الأحيان للأخلاق، ولا لقيم الرحمة والعدل، ولا لمكانة المخالف وتاريخه، مع بعض التهور والعنف في الخطاب، وهذا تفسره الثورية التي قام عليها الفكر.
والفكر العلماني أهون وأيسر من ولده المتطرف الليبرالي، فالأول ثائر على ما يراه ظالما بكل وضوح ويثبت، والآخر أكثر ترفا وقسوة إذا تمكن ويهرب، والأول يُحيد الدين بكل وضوح ويُبقي عليه، والآخر يحيده ويقضي عليه بخبث، والأول حركة، والثاني معتقد ودين.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام الحنيف قد قطع طرقهما بدعوته إلى الحرية، والعلم، وأن تكون طاعة الحكام في المعروف، وأن تكون الأمور شورى بين المسلمين، كما حث على التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وجعل النصيحة مهمة وأكد عليها، وحث الحكام على إقامة العدل، وخدمة الرعية، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم.
كما أنه حث على العلم، وكانت أول آية نزلت من القرآن:”اقرأ باسم ربك الذي خلق”، وحرر العقول من جمودها، وأكد على المجتهد بان يجتهد إن استطاع ولا يقلد، ورغب العامي في سؤال من تطمئن له نفسه من أهل العلم والديانة، وهذا لا يخلو من اجتهاد أيضا، كما دعا إلى التدبر والتأمل في الكون والحياة، وتفريج كربات الناس.
وعلم الشريعة عندنا ليس مقصورا على أحد، بل هو لكل من تمكن، وامتلك آليات الاجتهاد والتعامل مع النصوص، شريطة أن يتم هذا تحت قواعد معتبرة مضطردة منضبطة، وأن يكون هناك حوار فكري بينه وبين غيره من أهل المناهج المنضبطة؛ لتصحيح المفاهيم، وضبط القواعد، وليست هناك عصمة لحاكم ولا لعالم، ولم تكن إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مع أحد صك غفران ورحمة، ولا يستطيع أن يحكم أحد على مسلم بأنه في جنة أو في نار، وإنما نرجو فقط.
والإسلام هو الذي يستطيع مواجهتهما ويقضي عليهما فكريا؛ ولذلك فقد يستطيعون العيش مع كل الشرائع إلا شريعة الإسلام، وهم يفهمون ذلك ويعلمونه جيدا؛ ولذلك يقاومونه!
والإسلام هو الخطر الوحيد على كل المشروعات والأفكار الأيدلوجية الغربية؛ لأنها تموت في وجوده إكلينيكيا.
وكل ما يأخذونه على الشريعة فهو لمنع تفعيلها؛ لأن تفعيلها سيعالج هذه المشاكل، وهذا من عجيب الأمور، والأعجب أنهم أدرى الناس بالمشكلة والحل، ولكنهم يمكرون؛ ولذلك يحاربون الأزهر بضراوة؛ لأنه الأمل، والطريق إلى الأمل الوحيد!
وعلاج هذا الفكر يتلخص في عودة الأمة عودا حميدا إلى تاريخها ومجدها، مع التطوير المناسب للعصر في الوسائل والإمكانيات، ومعالجة الموضوعات الشائكة بمنهج فكري متكامل متزن، وأن تُجعل الأمور التي للقضاء الشرعي له، والأمور العلمية للأزهر الشريف، ويحاسب كل ظالم على فعلته قضائيا، ويعرف كل إنسان حقوقه وواجباته، ويحاسب إذا أخل بها، ومن هنا ينطلق قطار التجديد.