بـقـلـم / حــســـن زايـــــــد
هناك فريق من الناس لا يؤمن بنظرية المؤامرة ، معللاً ما يجري بأسباب ذاتية تتعلق بالمصاب ذاته . وهناك فريق آخر يتبعه في الإيمان بذلك ، تبعية تباع الشمس لضوئها .
وفريق ثالث يؤمن بنظرية المؤامرة ، معللاً ما يجري بأسباب خارجية ، تعمل علي حقن المصاب بالداءات ، فيتحلل ذاتياً كذلك . وهناك فريق آخر يتبعه في الإيمان بذلك .
وفريق خامس لا شأن لهم ، لا بهذا ولا بذاك .
وأنا لست بصدد إثبات صحة أو عدم صحة أي من المذهبين ، ولن أتبع كذلك الفريق الخامس الذي لا شأن له بأي شيء . فلن أقول بنفي نظرية المؤامرة ، ولن أقول بوجودها . وإنما سأرصد فقط موقف ينون من مصر، وبعدها نحكم .
وينون هذا هو دبلوماسي اسرائيلي سابق ، نشر دراسة في مجلة كيفونيم الإسرائيلية ـ وترجمتها اتجاهات ـ عدد فبراير عام 1982 م ، وهي الإصدار الرسمي لقسم المعلومات بالمنظمة الصهيونية العالمية ـ تحت عنوان : ” استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات ” . وقد ترجمها اسرائيل شاحاك إلي الإنجليزية ـ أستاذ الكيمياء العضوية بالجامعة العبرية ، ورئيس الرابطة الإسرائيلية لحقوق الإنسان ، ومحلل سياسي ـ ونشرها تحت عنوان : ” الخطة الصهيونية للشرق الأوسط ” .
وهنا يتبادر إلي الذهن تساؤلاً مشروعاً ، حول الدوافع التي تدفع بمجلة اسرائيلية إلي نشر دراسة تكشف ما يدور داخل العقلية الصهيونية من نوايا حيال منطقة الشرق الأوسط ، وكان الأجدر أن يتم الإحتفاظ بسريتها ، حتي لا يتعرف أحد علي تلك النوايا والمخططات .
وقد أجاب اسرائيل شاحاك بنفسه عن هذا التساؤل ، حيث أرجع النشر لسببين :
الأول ـ الرغبة في تثقيف الأجيال الجديدة ، بما كان يدور في ذهن الأباء المؤسسين من أفكار استراتيجية ، كان يجري تداولها شفهياً . ثم تبين أن التلقين الشفهي يعتوره العديد من العيوب ، فجري الإستعاضه عنه بالنشر .
الثاني ـ استهانة الفكر الصهيوني بالعقل العربي الذي لا يملك القدرة ، ولا الآلية ، علي التعامل الواعي مع مثل هذه القضايا . وأضيف أن العرب لا يقرأون ، وإذا قرأوا لا يفهمون ، وإذا فهموا لا يعملون ، وإذا عملوا لا يتقنون .
هذا ما فسر به شاحاك إقدام إسرائيل علي النشر .
وهنا أيضاً يثور تساؤل حول الأسباب التي تدفع بشاحاك إلي تقديم هذا التفسير . والحقيقة أن الدافع الوحيد هو أنه جري تكليفه من رابطة الخريجين الأمريكيين العرب بالترجمة ، باعتباره ناشطاً حقوقياً اسرائيلياً . وهل هذا يكفي لذاك ؟ . أقول نعم ، فليس كل اليهود صهاينة ، وليس كل الصهاينة يهود .
ولنعد إلي ينون ذلك الرجل شديد الغموض ، الذي نادراً ما يظهر ، ويبدو أنه قد عمل لفترات طويلة ، بالموساد والخارجية ، ونقول أن هذا الرجل قد وضع خطته الإستراتيجية كما يقول حسن نافعة ـ أستاذ العلوم السياسية ـ بعد عدة تواريخ مهمة :
أولها : بعد أقل من ثلاثة أعوام من توقيع اتفاقية السلام المصرية / الإسرائيلية .
ثانيها : بعد حوالي ثلاثة أشهر من إغتيال الرئيس السادات ـ صاحب المبادرة ، وعلي أيدي راديكاليين إسلاميين ، الذين سيصبح لهم دوراً في هذه الإستراتيجية فيما بعد ، في ثورات الربيع العربي ـ وقبل إتمام الإنسحاب الإسرائيلي من سيناء في 25 إبريل / نيسان 1982 م .
ثالثها : إقدام إسرائيل علي إجتياح لبنان بعد أقل من أربعة أشهر علي نشرها ، وظل فيها لمدة ثمانية عشر عاماً ، طرد خلالها الفلسطينيين ، وفعل ما يكفي لإخراج الجيش السوري .
والواقع أن الوضع اللبناني هو الذي أوحي إلي ينون بفكرة هذه الدراسة الإستراتيجية . إذ أن الواقع اللبناني الذي كان قائماً آنذاك ، بعد الحرب الأهلية التي دبت في ربوعها ، هو وجود خمس دويلات
. الأولي ـ دويلة شمالية مسيحية تابعة لسليمان فرنجية مؤيدة من سوريا .
الثانية ـ دويلة في شرق لبنان يحتلها الجيش السوري .
الثالثة ـ دويلة في الوسط يسيطر عليها الجيش .
الرابعة ـ دويلة بمحاذاة نهر الليطاني ، تهيمن عليها منظمة التحرير الفلسطينية .
الخامسة ـ دويلة في الجنوب تهيمن عليها مليشيات سعد حداد ، موالية لإسرائيل .
إذن فلتقم الإستراتيجية الصهيونية علي فكرة لبننة العالم الإسلامي ، أي تقسيمه وتفتيته علي أساس طائفي . وذلك بخلق دويلة لكل طائفة تقوم بذاتها . وهذه الإستراتيجية تحقق لإسرائيل هدفين :
الأول ـ جعل اسرائيل قوي عظمي في المنطقة ، من حيث التقدم العلمي ، والتفوق الإقتصادي والإجتماعي . الثاني ـ إرساء شرعية عقدية لدولة إسرائيل ، ومبرر أخلاقي لوجودها ، باعتبار أن لكل طائفة دولة ، فيكون لليهود دولة بالضرورة ، خالية من غير اليهود ، فتتخلص بذلك من عرب 1948 م ، الذين يمثلون خطراً ديموجرافياً عليها في المستقبل . ويتخلصون من صداع القضية الفلسطينية علي حساب العرب ، وليس علي حساب الدولة العبرية اليهودية التوراتية .
وقد استمدت خطة ينون واقعيتها من كون الحدود العربية حدود مصطنعة ، وضعتها القوي الإستعمارية ، ومن ثم فهي غير قابلة للدوام ، ويمكن إعادة ترسيمها علي أسس طائفية .
وهذه نقطة تماس واتفاق رئيسة بين خطة ينون ، وما تؤمن به الجماعات الراديكالية المحسوبة علي الإسلام ، وعلي رأسها الجماعة الأم ، جماعة الإخوان .
فاستراتيجية ينون قائمة علي إزالة الحدود التقليدية القائمة علي اتفاقية سايكس / بيكو ، وإعادة ترسيمها من جديد .
واستراتيجية الجماعات المتطرفة والإرهابية قائمة علي إزالة هذه الحدود الإستعمارية ، باعتبار أن إزالتها ستفضي حتماً إلي وجود خريطة موحدة لدولة الخلافة ، بعد انهيار النظام العالمي الحالي .
ومن هنا تجيء ظاهرة التحالف غير المعلن ما بين اليمين المسيحي في الغرب واليمين الديني الإسلامي . وللمقال بقية ، إن كان في العمر بقية .
حـــســـــــن زايــــــــــــد