بقلم جابر ابوطبه
تتزاحم الذكريات في عقل كل مهجّر في ذكرى النكبة، فيستذكر كلمات جدّه أو والده أو جدته أو أمه، أو ذكريات عاشها بنفسه قبل النكبة، كلمات تسترق السمع، وتأخذ إلى عالم من الخيال، كلمات تشعرك بالحرية والأصالة، كلمات تأخذك إلى التراث وتجعلك تستنشق عبق التاريخ، كلمات تتحدث عن البلاد ونسيم البلاد وتاريخ البلاد والعونة والحصيدة والأعراس والزفة والسامر والصيادة والدبكة واليرغول والشبابة، والبساطة والسعادة والحرية.
تستذكر مواقف الرجولة والكرامة والبسالة والدفاع عن الأرض حتى الرمق الأخير، وتستذكر المذابح التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي خلال احتلاله فلسطين في العام 1948م، كما تستذكر موقف العرب والجيوش العربية الهشّة، ودعم بريطانيا ودول الغرب لإسرائيل، وتأخذك الذكريات لكلمات الأجداد مرة أخرى عن تحدي أبو محمد وبطولات أبو العبد وبندقية أبو سالم، وغيرها من تلك الذكريات المنحوتة في الذاكرة. كلمات ومواقف سمعناها صغاراً، ورددناها كباراً، وبقيت وستبقى في الذاكرة والوجدان، وسوف ندرّسها لأبنائنا وأحفادنا وأهلينا، عن تاريخنا وبلادنا وقرانا المهجرة في فلسطين المحتلة.
وتأتي الذكرى ال699 للنكبة هذا العام ونحن نغوص في غياهب نكبات متعددة سبّبها لنا الاحتلال، كالانقسام، والفقر، وضنك العيش، والحصار، والتغييب. لدرجة أبعدت الشعب الفلسطيني عن أهدافه التاريخية وثوابته الوطنية، ولكنها بالتأكيد لن تنسيه إياها. تأتي ذكرى النكبة ال69 ومعتقلينا البواسل يخوضون اضراب الكرامة، ويقارعون السجان الظالم لليوم ال29 على التوالي بأمعائهم الخاوية، بمي وملح فقط.
ورغم هذه الملمّات والمشكلات والعقبات التي يصنعها الاحتلال وأذنابه وسيظل يصنعها، لن ننسى ولن نسامح، وما ضاع حق وراءه مطالب، نعيش على أمل العودة والتحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
سوف نعود يوماً ما إلى أراضينا التي هجرنا منها خلال النكبة، سواء في حياتنا أو بعد ذلك، طال الزمان أو قصر، سنعيد حقنا المسلوب ونستنشق نسائم أرض الأجداد، سأعود إلى قريتي الجميلة بربرة، وسأشاهد ما ترسخ في مخيلتي عنها بأمّ عيني، سآكل عنبها الموصوف وتينها اللذيذ.
سأتمشى في يوم ما مع عائلتي ساعات العصاري في الكروم، في حواري بربرة وشوارعها وفوق رملها (في الحواكير القبالى، وفي أبو الخزائن، وفي بيت سمعان، وفي الشراك، وفي أم المشاقف، وفي عمّودة، وفي الرمل).
سنعود حتماً لأراضينا المحتلة، وسنحيي هناك الذكريات من جديد، سنعود إلى: بربرة، والخصاص، ونعليا، وهربيا، والجورة، وحمامة، واسدود، وسمسم، وهوج، وكوكبا، ويبنا، وبرير، ونجد، واحليقات، زرنوقة، القبيبة، المغار، بشّيت، وكرتيّا، الجيّة، وحتّا، جولس، عبدس، ودمرة، المسمية، قطرة، ياصور، عاقر، القسطينة، ودير سنيد، وبيت طيما، وبيت دراس، بيت جرجا، بيت عفّا، وعراق سويدان، وادي حنين، والسوافير الشرقية والغربية والشمالية، والبطاني الشرقي والغربي، وبئر السبع، والكوفخة، والمحرّقة. سنعود حتماً إلى حيفا، ويافا، وعكا، وأم الرشراش، وطبريا، والقدس، واللد، والرملة، والمجدل. راجعينلك يا بلاد في يوم من الأيام، وسوف نحيى ذكرى الأجداد على ترابك وبين كرومك، راجعين بالتأكيد ولن نفقد الأمل.