أرادوا الخروج وأعدوا له العُدة هرباً من جحيم النيران حتى إذا ما عبروا الحدود وظنّوا أنهم قد نجوا من الموت، التهمهم صقيع البرد ولم يكن معهم ما يدفرون به أجسادهم العارية غير زاد أرواحهم، لكن ماذا يفعل زاد الأرواح فى مواجهة قسوة الطبيعة وغضبها الهائج غير الاستسلام وانتظار الموت، وهذا ما حدث ، فقد ماتوا على الحدود بعدما تجمدت أطرافه ونزفت قلوبهم قهراً وعجزوا عن المواجهة بعدما تخلّى عنهم القريب قبل البعيد ، فصعدت الروح إلى خالقها علّها تجد هناك الحياة الآمنة التى استكثرها عليهم هذا العالم الذى انتحر ضميره الإنسانى وضيق عليهم الخناق وتركهم وحدهم فى مواجهة الموت، فإذا ما جاء الصباح تناقلت وسائل الإعلام الخبر لمدة دقائق وتفاعل الناس كعادتهم بعاطفتهم والبكاء عليهم، وخرج هذا يشجب والآخر يستنكر وتسيل أشرطة الأخبار بعناوين ومانشتات الخبر ، وما هى إلا لحظات حتى ينسى الجميع ما حدث وتظل المآساة كما هى، تتكرر كل يوم بنفس السيناريوهات والمشاهد مع أبطال جدد، ولا شيء بعد ذلك، فما أغرب هذا العالم الذى بتنا نعيش فيه! تلك كانت قصة من قصص الموت التى جسد أدوارها إحدى العائلات السورية التى أرادت الهروب عبر حدود لبنان بحثاً عن ملاذ آمن من قصف الطيران الروسى والأسدى لكن الظروف لم تساندهم حتى قضوا نحبهم جميعاً.
لا شك أن الثورات التى مرّت بها المنطقة العربية تسببت فى كوارث إنسانية وطوام كبرى تشيب لها الرؤوس وتدمع لها العيون، وما من شعب إلا وقد نال من تلك الكوارث ما مزق شمله ودمّر حياته، لكن النسبة الأكبر من هذا التدمير والضياع كانت من نصيب الشعب السورى الشقيق، الذى ما لبث حتى أصبح شريدا طريدا، لفظه العالم أجمع ولم يقدم له سوى الخيبة والمتاجرة بقضيته .
وقد أتاحت لى الظروف الفرصة لأرى بنفسي المعاناة التى يعيشها هذا الشعب المكلوم، فقد طلب منا مركز البحث الإجتماعى التركى “ipsos ” إجراء بعض البحوث الإجتماعية عن حياة العائلات السورية ورصد أوضاعهم المعيشية بكل دقة، وعمل إستمارة لكل عائلة تحمل كافة المعلومات الخاصة بهم ،ومع سعادتى لهذا العمل الذى سيساهم فى حل كثير من مشاكل هذه العائلات، لأن الجهات المسئولة سوفت تأخذ نتائج هذا البحث بعين الاعتبار على حد قول المركز، إلا أنى تفاجأت بقصص مؤلمة تهز الوجدان ويندى لها جبين الإنسانية خجلا وحياء.
رأيت مالا نراه فى وسائل الإعلام الذى يجتزئ الحقيقة ولا يعرضها بصورة كاملة، فهناك عائلات تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة لاسيما أصحاب الأعمار المتقدمة والمرضى الذين لم يجدوا ما يناسب أعمارهم وقدراتهم للاندماج فى السوق التركى فتلجأهم الحاجة إلى السؤال، ومنهم من يتجوّل بقليل من المنتجات الورقية والإكسسوارات التى لا يكفى دخلها ما يُغطى مصاريف الحياة من طعام وشراب وإيجار، وهناك الأطفال الذين يتعرضون لاستغلال غير إنسانى واغتيال لطفولتهم بتركهم فى الشوارع فرائس لمافيا التسول والإجرام ، فعلى قدر ما قدم بعض السوريين نموذجا رائعاً فى الاعتماد على الذات وخلق مشاريع ناجحة ساهمت فى انتعاش السوق التركى وإضفاء حراك اقتصادى نشّط الحركة التجارية، إلا أن هناك فئات آخرى ليست بالقليلة كادحة مريضة لا تجد قوت يومها، يمر عليها الشهر ببطء وخوف شديدين خشية آلا يستطيعوا الوفاء بما عليهم من التزامات.
فقد استقبلت تركيا أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ وهذا واجب عليها وجهد مشكور لها، إلا أن ذلك لا يعفيها من مسئولية حمايتهم من الإستغلال من قبل أصحاب المصانع الذين يرون فيهم عمالة إقتصادية موفرة فيهضمون حقوقهم دون أدنى مسئولية أو محاسبة، فلابد من وجود قانون يحميهم من الاستغلال وتحسين أوضاعهم من تعليم وصحة ودعم اجتماعى يليق بهم.
بدأت أتجوّل بين العائلات منصتا إليهم كى أسبر أغوار معيشتهم بكل دقة، كانوا يبُثون همومهم وينعون وطنهم الذى راح مخلفا ورائه بقايا ذكريات متناثرة، يعيشون على ما تبقى منها علّها تخفف عنهم ما هم فيه، لكن يظل الحنين والعودة إليه راسخا فى رؤوسهم ويملك ناصية أحلامهم رافعين شعار ” لكل شيء إذ ضيعته عوض ، وما لضياع من عوض ” ومع علامات الحزن التى رأيتها تكسوا ملامح وجوههم لضيق الحال وصعوبة الحياة بتركيا إلا أنهم لا يتفوهون بكلمة فيها سخط، بل يدعون الله بكل حب ورضا أن يفرج همهم ويردهم إلى وطنهم أمنين مطمئنين.
فمن يتحمّل مسئولية هذا الشعب الجريح الذى لا ذنب له غير أنه أراد الحياة والتخلص من براثن نظام طائفي فاشى ، فالجرح الذى تم فتحه بالجسد السورى سيظل ينزف طالما هناك من لا يريد أن يعالجه ويضمد جراحه، فالأمه كالجسد إذا اشتكى منه عضواً تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وكالبنيان الواحد يشدّ بعضه بعضا.
لقد أصبحت القضية السورية رقماً صعباً فى الحسابات السياسية الدولية وتحوّلت إلى مأساة تقض المضاجع وتؤرق أصحاب الضمائر الحية الذين يعلون من القيم الإنسانية على المصالح الرخيصة، وما تعرض له هذا الشعب المظلوم كان كافياً على تعرية الأمة كلها من شعارتها المزيفة التى تتدثر بها وترفعها فى كل محفل دولى، فعار على الأمة العربية أن تترك جزء منها يموت دون أن تتحرك وتقدم له يد العون، فالجميع تآمر على الشعب السوري، بسبب الخير الذى حفلت به أراضى الشام من ثروات نفطية وتاريخ وحضارة ممتده لآلاف السنين وموقع إستراتيجي حيوي،فمتى نتحرك ؟، فلا يخذل سادة فى محنة إلا عبيدا فى نعمة.