كــــل عـــامٍ و أنتــم بخيـــر أجمعين…
تــمتلأ ذاكــرة الجوال (كما نسميه في الحجــــاز) هذه الأيــام برســائل المعايدة بمناسبة بداية العام الهجـــري
ويتم تداول المقاطع الدينية بدعــاء “اللهم ما عملته في هذه السنة مما نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيته ولم تنسه، وحلمت عليّ في الرزق بعد قدرتك على عقوبتي، ودعوتني الى التوبة بعد جراءتي على معصيتك، اللهم إني استغفرك منه فاغفر لي”،
وتضــج المحافل بالاحتفالات الدينية بتلاوة القرآن الكريم والاحاديث النبوية، وتقديم الإنشادات الدينية.
و سواءٍ كنت ممن يحتفل بالسنة الهجرية، أو كنت ممن لا يحتفل بهــا لأنه يرى أنها بدعة و لا أصـل لها عن السلف الصالح، إلا إنك لن تستطيع أن تتفادى إحدى تلك المقاطع أو الرسـائل من الوصول إلى جوالك أو حساباتك على الفيسبوك و تويتر و الإنستجرام.
وقد تصلك إحدى رســائل أهل الحجاز بمناسبة السنة الهجرية ذات اللمســات و الكلمــات الخــاصة!
حيث يتم تداول صــور فناجين قهوة بيضــاء أو قهــوة لــوز (والتي أشبه ما تكون بالسحلب و لكن أخف قواماً) و بجانب الفنجــان هذه المرة ليست ورودا حمراء بــل نوعــا من أنواع الخضــار الورقيــة!
فالإفطــار على القهوة الحلوة أو قهوة لـــوز (مشــروب حليب محلى و مغلي بنكهـة الهيل و حبيبات اللوز) و شيئأ من الخضرة كالخس أو الجرجير يعــد من الطقوس الحجازية الجميلة التي نتفاءل بهــا كبداية للسنة الجديدة.
و مازلت اذكــر جدي رحمة الله عليه،و أنا طفلة تلهــو بألعابهــا، و هو يطرق باب منزلنــا، في ليلة رأس السنة الهجرية، فيفتح أبي الباب و ينحني ليقبــّل يد جدي المتكــأة على عصــاته الخشبية، بينما ينحني جدي ليقبــل بكل الحــب يدي (أنــا) الطفلـة الصغيرة و يحتضنني….!
والدي: يا أبــويا، تعبت نفســك، أنــا آجيك لحــدك بدل ما تتعب و تضرب مشوار لبيتي.
جدي: خــد ياولدي الزنبيــل (كيس الأكل) من يدي لأهــل بيتـــك.
أمــك الله يعافيهـا عملت لكم قهــوة لــوز عشــان تفطــروا عليها الصباح و تكون سنتكم حلوة و بيضا زي الحليب، و أنـــا جبت لكم الملوخيــة الخضــرا من الســوق عشــان غداكــم، يجعل سنتكم خضرا و رزقهــا مبارك يارب.
والدي: الله لا يحرمني من رضـاكم علينا يا أبــويا ..
و بينمــا يستدير أبي ليدخــل هدية جدي و جدتي إلى المطبخ عند أمي (و التي بدورها تكون قد أعــدت صينية ما نسميه في الحجــاز عيش باللحم – حيث يفرد العجين ويوضع بالصينية ويفرد علية خليط اللحم المفروم والكرّات الأخضـر والطحينة ويدخل الفرن ويقدم ساخنآ- ويعتبر أيضـا فأل خير لأنه يحتوي على الكرات (الأخضر) و اللحم و طحينة السمسم و التي ترمـز إلى الخير و الرخـاء)
يرد جدي دعــاء والدي: الله يوسّع يــاولدي رزقــك و يطرح البركـة في بيتك و ذريتك يارب.
ثم يهمس جدي في أذني و هو يلاعبني و يقبل يدي مرة أخرى:
النــاس فألها قهــوة لــوز حلوة و ملوخيــة و أنــا فألي ضحكة عيونــك.. الله لايحرمنا من بركة الصغــار!
و في تلك اللحظــة الموازية للحظة العد التنازلي في السنة الميلادية حيث يـُقبّل الحبيب محبوبته ليبدأ معها سنة من الحب، يُقبــّل جدي جبيني و يُــخرج حبة من التمــرة المحشية باللوز ويقسمــها بيني و بينه، ويطعمني إيــاها…
هكــذا عرفـت الحب صغيـرة، ورأيـت الحنــان و الرعــاية في منزلــنـا و عائلتنــا.
لم يقــرع جـدي باب منزلـنــا و ينحني أبي ليقبل يده، فيخــرج أحدهمــا الجوال ليلتقــط سيلفي!
لم ينحني جدي و يقبل يدي لتنزل صورتنــا على الفيسبوك أو الإنستجرام مع جملة: هكذا تكــون المحبــة بين الأجيــال!
لم ترســل أمي صورة العيش باللحم الذي أرســلته لآهــل زوجها على السناب تشــات قبل أن يأخذه أبي منهاّ!
لم يرســل أبي أدعية جدي له بالخير و البركـة في مقطـع على الواتساب!!
و بالتأكيــد لم تحمــل التمــرة التي أطعمني إيــاها جدي إسمــا فرنسياً أو غلافـاً ملونــأً لمحــل شهيــر!
كــانت المعايدات و التهاني شخصية لا إفتراضيــة، و الأطعمة الخـاصة في المناسبات لهـا مذاق خاص لأنهــا مقدمــة بــحب،
و مــازلت أشعــر بوجود جدي و ستي رحمة الله عليهم أجمعين مع تكبيرات العيد و طقــوس المناسبــأت و أحرص على التقاليــد و اللمسات الخاصــة في المناسبات كما تعلمتها و عشتها معهـم، فالحــب يجلــب البركــة في المنــزل و الرضــا في النفــس. و تلك الطقــوس ما هي إلا تعبير عن ذلك الحب و إنعكــاس لرضــا النفس عمـا رزقها الله من مــال و ذريـّـة.
رحمة الله عليك يا جــدي… رحمة الله عليك يا ستي..
بذرتـم بذور الحب في قلوب أحفــادكم و هاهي اليــوم تصلكــم ذكــرى و دعــاء..
مع بداية جديدة في أيــامنــا على الأرض لا تتجــاهلوا طقوس الحب في رحــلة الحيــاة!
فالرحلـــة طويــلة و زاد القلــوب فيها ذكريات و حكايــات، تستدعيهــا الذاكـــرة و تستظــل بهــا كلمــا كلَّــت الأرواح و صـدأت من المشــاكل و أصابهــا الحنـــــيـــــن.
صبــاحكم قهــوة لـــوز..