الليل يطوي صفحاته ببطئ ؛ كما تفعلُ تلميذةٌ كسولة كي لا تنال عقابها ؛ تمرُّ النجوم من خلف غيمٍ أسود مُتجمد في السماء ؛ عاثرُ الحظّ يندبُ ليلته بصمتٍ ؛ أما الفجرُ فكان يدنو من ضفّةِ النهر القريبة …
– إنها ليلة ماطرة يا أم أسعد …
– هكذا يبدو … ما لبثت وأن ترنّحت في جلستها المُعقّدة كضفائرِ شعرها الممتزج ببياضِ الأربعين .
– يجب أن استيقظ مع ولوج الفجر … لديّ عمل كثير في الحقل , علي أن أنهيه قبل أن يحلّ الصقيع …
مرّ القطارُ كالمعتاد في موعدهِ المُحدد ؛ لم يتأخر كما فعل ليلة البارحة ؛ إذنْ لقد تجاوزت الساعة منتصف الليل ؛ ففي كلّ ليلة يمرُّ من هنا تاركاً أفكارهُ تعبثُ على جنبات السكة ؛ باتَ النومُ ضرورةً لا بدَّ منها في هذا الوقت .
عندما صرخَ الديكُ الأحمر كان أبو أسعد يرتدي ثيابهُ المُلطخة ببعض الوحل , أما زوجته فكانت تُجهّزُ له زوادة الصباح ( أقراص جُبن , حباتُ زيتون , ثلاثُ بيضاتٍ , وخبز أسمر ) … لَفتّها بقطعةِ قماشٍ ثُمَّ ربطتها جيداً .
استيقظت الدجاجاتُ مُرغمةً , الريحُ تلهو مع أغصان الشجر في حديقةٍ قريبة من البيت , قطيعُ الأغنام يعبرُ بالقربِ منهُ أيضاً , يسبقهُ الكلب المُترنح بمشيته , الحمارُ يتأخرُ أكثر مما يجب هذا اليوم , فيصرخُ الراعي غاضباً .
غادر أبو أسعد البيت حاملاً زوادته القماشية , وخرجَ تاركاً خلفهُ السرير منكوشاً .
– ألم تنسى فأسكَ يا أبا أسعد …
– لا … هو هناك في الحقل … تركته يوم أمس كي لا أحمله اليوم أيضاً …
– أحضرْ معك بعض الحشائش للغداء …
هزّ الرجل الخمسينيُّ رأسهُ بالموافقة دونَ أن ينبسَ بكلمةٍ واحدة , صفعتْ الريحُ وجههُ الأسمر, تلاقتْ نظراته مع الرابية التي تُطِلُّ على بيته , أفكار متشعبة تداهمُ ما تحتَ بياضِ شعره …
– إلى متى سنبقى على هذا الحال …
– لقد أصابني التعب واليأس … ( كان حديثه خافتاً آنذاك ) …
تابعَ طريقهُ وهو يراقب ما حوله من مشاهد تتالى كمسلسل أُعِدّ بعنايةٍ فائقةْ , طرقَ أذنيه صوتُ ناي , وموالُ راع , استمتعَ للحظاتٍ وكأنّهُ لم يسمعهُ من زمنٍ بعيد , تذكّر بأنَّ صوتهُ جميل , فأطلقَ العِنان لموالهِ المُحبب إلى قلبهِ ( يا رايح ع الحقلة … جبلي معكْ جرزة بقلة ) …
– أخ … لو رزقني الله بصبيّ , كان سيساعدني , ويحمل عني بعض أعباء الحقل …
– سامحكِ الله يا أمّ أسعد … لو تركتني أتزوج , ألم يكن لدينا الآن حُفنة أولادْ …
حديثهُ مع نفسهِ لم يكنْ صامتاً , صوته كان أعلى مما يجب ؛ تناهتْ بعض كلماته إلى مسامع الراعي , سحبتها الريحُ عنوة , وساعدت ساعات الفجر على تجاوزها للزمانِ والمكان .
– هههه … يا أبا أسعد … أَتُحدِثُ نفسك !!! …
– سلام يا صديقي … أيْ واللهْ أُحدِّثُ نفسي …
– الحقّ عليك … قلتُ لكَ تزوجْ , لكنكَ عنيدٌ جداً يارجل , ها أنا لديّ ثلاثُ نساء …
– إذنْ عليكَ بهنّ ودعني وشأني يا رجل …
انتهى الحديثُ عند مفرق الدرب التُرابي , فلكلٍّ منهما وِجهتهُ الخاصة , وهدفهُ المُختلف عن الآخر .
عبرتْ ساعات الصباح الأولى بسرعة , أخذ التعبُ مأخذهُ منْ أبي أسعد , جَرّجرَ قدميه إلى فُسحةٍ صغيرة , فَرَدَ زوادته القماشية وبدأ ينشرُ ما فيها على التراب .
– آهٍ يا بلدْ … لقدْ سئمتُ من الزيتون والبيض … جاري أبو طارق يأكلُ العسلَ بينما أنا آكل ( ……. ) … صمتَ مُكرهاً .
حضرَ المطرُ طعامَ الإفطار , الرياحُ أيضاً شاركتهُ وليمتهُ الصغيرة , تحسّس صدرهُ المغروس بشعرٍ غزيزٍ كما مطر ذلك الصباح , شرِبَ رشفة ماء , تنهيدةٌ طويلةٌ تتطاولُ كَعُنقِ زرافة , بكاءُ المطر الإلهي يدنو من ذاكَ المكانْ , أفعى مرقّشة ترقصُ على نغم الناي .
– أيها الراعي … أيها الراعي … كان النداء طويلاً جداً …
صدى كلماته يُصافحُ الجبل الأعمى البعيد كالسماء , لم يستجبْ الراعي لاستغاثةِ أبو أسعد , ربما لم تصله إشارة القاطن تحت عنق الجبل .
اشتدَّ الصراخ أكثر وأكثر, تجمهرت بعض العصافير فجأة , العاصفةُ تأتي مُتأخرةً هذه المرّة , السكونُ يُداعِبُ أوراقَ ( السبانخ ) , منذ قليل أمست يتيمة , فألقتْ بنفسها في كيسٍ مخشوشب الحواف .
المرأةُ تنتظرُ الحشائش الطازجة , جهزّت حبات الأرز , انتهتْ للتوِّ من أعمالها اليومية , انتظرتْ طويلاً على ناصيةِ البيت , ترْقُبُ عودة أبو أسعد …
هناكَ في الأفق الممتد إلى اللانهاية كانت تلوح صورة صبيٍّ اسمهُ ( أسعد ) ….
الراعي يهشُّ بعصاه ويغني بلحنٍ إغريقيٍّ قديم : ( أين ذهبَ أبو … ) , العصافير تمتطي قطار منتصف النهار ..