بقلم العالم الموسوعي د محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
الفن هو فصيلة دم الشعوب
إذا أردت أن تعرف شعباً , عليك القفز من نافذة الفن
الفن يرصد كل شئ
التاريخ والجغرافيا والإقتصاد والمجتمع والعادات والتقاليد ….كل شئ
مخرجنا الرائع صاحب كتاب (( التليفزيون الفن الثامن ))
وحينما سألته عن الفن قال :
الفن هو تجسيد ماوراء الواقع برؤية فنية
ورؤية مخرجنا تميمة فرعونية بطلاسم سرية غنية ثرية
تحتاج دراسة وفراسة , ورؤية وروية
وتبدأ الرحلة نحو عزبة دويدار , قرية الحصوة , مركز أبو كبير , محافظة الشرقية
مع أولى خيوط النور التي راحت تبدد عباءة الليل الثقيلة
وتنفس الفجر في دعة ووداع ليعلن ميلاد يوم جديد من أيام عام 1942 وأيضاً مولود جديد في عزبة دويدار مخرجنا دويدار الطاهر .
الوعاء التاريخي لهذا العام يفصح عن أحداث جِسام في القطر المصري
في 4 فبراير 1942 قامت القوات البريطانية بمحاصرة قصر عابدين، وأجبر السفير البريطاني في القاهرة السير مايلز لامبسون فاروق الأول ملك مصر على التوقيع على قرار باستدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة بمفرده أو أن يتنازل عن العرش , وكان السفير جادًا في هذا الإنذار، وكان يعد من يحتل العرش مكانه، وهو ولي العهد الأمير محمد علي توفيق الذي ظل حلم اعتلائه للعرش يراوده لسنوات طويلة، كما إنه أكبر أفراد أسرة محمد علي سنًا، إلا أن زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس رفض الإنذار. وعند مساء هذا اليوم 4 فبراير 1942 توجه السفير ومعه قائد القوات البريطانية في مصر «الجنرال ستون» ومعهما عدد من الضباط البريطانيين المسلحين بمحاصرة ساحة قصر عابدين بالدبابات والجنود البريطانيين ودخلا إلى مكتب الملك وكان معه رئيس الديوان أحمد حسنين باشا، ووضع أمامة وثيقة تنازله عن العرش، وقد كتب بالوثيقة:
((نحن فاروق الأول ملك مصر، تقديرًا منا لمصالح بلدنا فإننا هنا نتنازل عن العرش ونتخلى عن أي حق فيه لأنفسنا ولذريتنا، ونتنازل عن كل الحقوق والامتيازات والصلاحيات التي كانت عندنا بحكم الجلوس على العرش، ونحن هنا أيضًا نحل رعايانا من يمين الولاء لشخصنا ))
صدر في قصر عابدين في هذا اليوم الرابع من فبراير 1942.
ويقول السير لامبسون إنه عندما وضع وثيقة التنازل أمام الملك تردد لثوان، وإنه أحس للحظة إن الملك سوف يأخذ القلم ويوقع، لكن رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا تدخل باللغة العربية وقال له شيءً ثم توقف الملك وطلب من «لامبسون» فرصة أخرى أخيرة ليستدعي مصطفى النحاس على الفور وفي وجوده إذا أراد وأن يكلفه على مسمع منه بتشكيل الوزارة، وسأله «لامبسون» إذا كان يفهم وبوضوح إنه يجب أن تكون الوزارة من اختيار النحاس وحده؟ فقال أنه يفهم، فقال له السير لامبسون إنه على استعداد لأن يعطيه فرصة أخيرة لأنه يريد أن يجنب مصر تعقيدات قد لا تكون سهلة في هذه الظروف، ولكن عليه أن يدرك أن تصرفه لا بد أن يكون فوريًا، فرد عليه مرة أخرى إنه يستوعب إن ضرورات محافظته على شرفه وعلى مصلحة بلاده تقتضي أن يستدعي النحاس فورًا .
وتدور رحى الأيام ويلتحق الطفل دويدار بكُتاب الشيخ حسن ليحفظ القرآن ويتعلم الكتابة والقراءة والخط , ويتم تعليمه الإعدادي والثانوي .
يتذكر مخرجنا الكبير أول عقاب له من والده عندما نادى على فلاح يُدعى عم سويلم ناداه مباشرة (( سويلم )) فضربه أبوه ونهره قائلاً هذا عمك سويلم , هكذا تعلم من والده الشيخ الأزهري وأيضاً من جده القاضي الشرعي
نضج فكر صاحبنا وهو طالب في كلية الأداب قسم الجغرافية التي تفوق فيها على أترابه
وأقرانه وحصل على درجة الليسانس
ونحن نؤرخ لمخرجنا العظيم دويدار الطاهر الذي تنفس شهيق الإبداع وزفير اليراع في عصر القمة من الأدباء والمفكرين على سبيل المثال دكتور طه حسين , توفيق الحكيم , العقاد , أحمد أمين , لويس عوض , نجيب محفوظ .
في هذه الحقبة رأي مخرجنا بشائر حملات التنوير التي حرص عليها محمد علي باشا في مطلع القرن الثامن عشر 1805.
مازال ترعة الرمل الرقراقة تجري في وجدانه , أما عم وديع كان يصوم معه رمضان
ابراج الحمام والحقول الخضراء والطيور والورود والزهور .
هذه البيئة الزمانية والمكانية شاركت بالتأكيد في تشكيل الوعي الفردي والفني لدى مخرجنا الفريد دويدار الطاهر , بالإضافة لنمو الوعي القومي وتطور صناعة السينما وزيادة الترجمة والتلقيح الثقافي فضلا عن روح الديمقراطية بين الأحزاب السياسية .
نحن أمام شخصية فريدة لها من الفنون الإخراج , الرسم , الشعر , كتابة القصة , ذواقة للأدب يجيد لغات أجنبية , كل تلك المقومات جعلته أن يتقدم بثقة للإلتحاق بالتليفزيون .
وقف الشاب دويدار الطاهر أمام لجنة العمالقة من ماسبيرو الذي تم إفتتاحه سسنة 1960 بقرار من الزعيم جمال عبد الناصر , كانت اللجنة من الفطاحل منهم : همت مصطفى , سميحة عبد الرحمن , سميرة الكيلاني , الفنان صلاح طاهر , صلاح ذكي والدكتور على الراعي .
لجنة كشف الهيئة
ويفوز دويدار الطاهر بوظيفة مخرج حينما سألة الدكتور الراعي عن استعمال أخر للكرسي فقال : كرسي الملك فاروق أشتراه أحد الفقراء من محلات الروبابكيا وفي ليلة شديدة البرودة لم يجد الرجل الدفء إلا بهذا الكرسي العريق .
شغل العديد من الوظائف بالتليفزيون المصري مخرج بالإدارة العامة للأخبار من 1965 إلى 1970 ومات الزعيم جمال عبد الناصر مؤسس ماسبيرو
مخرج بالبرامج الخاصة بالتليفزيون من 1971 إلى 1973
وكانت حرب أكتوبر المجيدة
رئيس المكتب الفني للبرامج وشئون الإنتاج 1974 إلى 1977
رئيس الإخراج التسجيلي بالتليفزيون من 1978 إلى 1981
وجاءت حادثة المنصة وإغتيال الرئيس السادات
رئيس الإدارة المركزية للإنتاج المتميز بقطاع قنوات النيل المتخصصة بإتحاد الإذاعة والتليفزيون 1996 إلى 2002
أخرج مايزيد عن 20 فيلماً تسجلياً وكتب اكثر من ثلاثين سيناريو لاعمال فنية من افلام روائية أو تسجلية , أو تجريبية أو سهرات درامية .
وعن المعايير التي يتم علي أساسها انتاج أعمال خاصة بادارة الانتاج المتميز يقول دويدار الطاهر أضع في اعتباري عند اختيار الأعمال التي سيتم انتاجها أنها سوف تذاع علي قناة متخصصة ولابد للمشاهد الذي سيراها أن يشتري ديكودر ودش ولذلك فلابد أن تحمل الحافز لذلك كما أنني أخاطب المصري الذي يتعرض للقنوات المتخصصة في المقام الأول وثالثا لابد أن أقدم شكلا مغايرا تماما عن الاشكال التي تقدم في باقي قنوات الانتاج بالاتحاد كقطاع الانتاج والتليفزيون وصوت القاهرة وغيرها ويكون هذا الاختلاف شكلا ومضمونا. وعن الموضوعات التي تثار في تلك الأعمال يقول دويدار الطاهر: نقدم نوعين من الموضوعات أحدهما يعالج قضية والأخري تعالج قيمة وتخرج من الشكل التقليدي حتي أضع في اعتباري مسألة التنافس وموضوعات تناسب ايقاع العصر الذي نعيش فيه, فحاليا لايستطيع المشاهد أن يظل أمام الشاشة ساعات طويلة لمشاهدة عمل أو يظل يري عملا واحدا وفكرة واحدة أكثر من30 ساعة.,
وعن الامكانيات المتاحة لتصوير الأعمال يقول: ان الامكانيات متاحة جميعها سواء عناصر مادية أو استوديوهات خارجية في مدينة الانتاج الأعلامي أو الكاميرات أو معدات التصوير.
وبعد هذا العرض يمكننا ان نفك طلاسم تلك التميمة الفرعونية التي أحاطت بمخرج الروائع دويدار الطاهر .
لقد قدم شيخ مخرجي ماسبيرو شهادة على العصر
عصر الفن والفكر والثقافة والإبداع
عصر التألق في الفن الثامن أو التليفزيون
لقد هاتفني مخرجنا الرائع حينما كتبت عن الفرنسية (( كريستيان ديروش نوبلكور )) التي انقذت معابد النوبة من الغرق أثر بناء السد العالي 1960
تلك السيدة الفرنسية التي تمنت لي أن اكون عالما ينفع بلاده
وسألني مخرجنا الرائع هل تم عمل فيلم تسجيلي عنها أو وثائقي ؟
ووعدته أن أخاطب السيد وزير الثقافة لإنتاج هذا الفيلم
مسيرة الرجل جعلتني أضعه في كتابي هذا (( بورتريه )) الذي يجمع شخصيات لها بصمات وأثر في حياة البشر .
والسؤال المطروح لماذا يعاني ماسبيرو من تدهور وتراجع بعد أن كانت له الصدارة
في العالم العربي كله .؟….سؤال جدير بالبحث له عن إجابة .
أليس كذلك
محمد حسن كامل